يُحسب الكاتب حسين عبدالرحيم على جيل التسعينات، لكنه لا يؤمن بالمجايلة الأدبية. تسكن مدينة بورسعيد المتوسطية الكثير من كتاباته، الروائية والقصصية. هو مفتون بها تماماً، لذلك تشكّل المدينة الباسلة فضاءً مكانياً في الكثير من أعماله، ومنها رواية «عربة تجرّها الخيول»، و «المُسْتَبْقي»، ومجموعته القصصية الأخيرة «زووم إن»، التي يتجلى في عنوانها تأثير دراسته للسينما على كتابته. > لماذا بورسعيد؟ - بورسعيد هي محل ميلادي، وحلمي الذي لم يكتمل، خرجت منها في سن الثامنة عشرة، لكنها مازالت ترافقني حتى اليوم، رغم أنها خذلتني وتغيَّرت. سافرتُ لأعمل في اليونان ورجعت لأجد الناس تغيَّروا. بورسعيد هي المدينة التي ظل أبي فيها (مستبقياً)، أي لم يخرج منها بعد الحرب. هناك تعرّفت على العالم، السينما والبحر والأماكن والناس... باختصار، شكّلتني تلك المدينة. بورسعيد كانت نموذجاً مصغّراً لكل ما لحق بمصر، وتحديداً قرار الانفتاح وتحويلها إلى منطقة حرة، السادات قال إن ذلك القرار نوع من التعويض للمدينة عن سنوات الحرب، وبالنسبة إليّ ذلك القرار عصف بالمدينة وبحياتي. بورسعيد تحاصرني وتسكنني رغم خروجي منها. الآن صار لي في القاهرة 26 عاماً، إلا أن نفسي تراودني كل يوم لأعود إليها، فهي البداية والمنتهى. ولذلك حضرت في نصوصي، وصدّقني عندما أقول أني كنت أخشى أن أموت قبل أن أكتب عنها، لأنها الملهاة والمأساة في آن، وهي كل شيء ولا شيء. > نلاحظ في مجموعتك «زووم إن» ميلاً إلى تنويع ضمائر السرد والتلاعب بها، كيف ترى ذلك في ضوء ثنائية الصنعة والموهبة؟ - في «زووم إن» كان الرهان مرتبطاً بالصنعة قبل كل شيء، وكانت تلك التنويعات عن قصد، أنا أكتب بالشكل الذي يرضيني ويروق لي في المقام الأول، لكني أيضاً كنت أنشغل أثناء الكتابة بسؤال كيف أستطيع أن أمرر هواجسي في أشكال كتابية تصلح للتلقي من أكثر من مستوى للقراء؟ وبعد انتهائي من كتابة المجموعة كنت أخشى من التلقي، إلا أن ردود الفعل أبهجتني. > عند الكتابة، تضع القارئ في مرتبة ثانية، وإشباع مزاجك الشخصي يأتي كأولوية؟ - أنا أكتب لإشباع ذائقتي الشخصية، وكذلك أكتب لأصفّي ديوني الإنسانية والروحية تجاه نماذج بشرية مرّت في حياتي، إذ سأشعر بالتقصير وتأنيب الضمير لو لم أكتب عنهم. > يتضح في روايتك «المُستَبقي»، وكذلك في «زووم إن»، مزاوجتك بين التخييل، والاتّكاء على خبرات حياتية، لماذا تحرص على هذه التضفيرة ؟ - بسبب الخوف من تعرية نفسي في كتاب، الخوف من المكاشفة. لكن هذا ما أشتغل عليه حالياً في رواية قيد الكتابة تحمل اسم «ظِلُ يوسف»، عن الفضح والتعري، في ما يخص طفولتي وعلاقتي المركّبة والشائكة بأبي وإخوتي. > ألم تخش في «المُستَبـقي» من أن يزاحم الأيـديـولوجـي الجـوانـب الفنية؟ - لم تعنني الأيديولوجيا، لا أركّز معها، أنا أكتب عن الجوانب التي انطبعت عليَّ وانعكست على حياتي بسبب تلك التيارات. أما الأيديولوجيات نفسها، فلا تشغلني. أنا لم أمارس السياسة في شكل حزبي، ولا أنتمي إلى عالمها. > قلتَ في تصريح لك إن شخصياتك امتداد لأرواح وشخصيات كونديرا ودستويفسكي... كيف ذلك؟ - أنا أرى نفسي بأكثر من طريقة، وأشعر أن داخلي يتألف من عدد من الأشخاص، ربما بسبب هذا التناقض والاحتشاد الداخلي أستطيع التماهي مع هؤلاء، والانشغال بهم، والكتابة عنهم. > كيف أثَّر حبُّك للسينما ودراستك لها في نتاجك الأدبي؟ - دوماً كنت أتخيل أن العالم (بلاتو) كبير، وخفّت هذه اللهفة نوعاً ما بعد أن كتبت «عربة تجرّها الخيول»، إذ كانت تلك الرواية بمثابة تعويض كتابي عن حلمي بالعمل في مجال السينما، فقد عملت في جنبات هذا العالم، مساعد مخرج. السينما شكّلت وعيي وعلاقتي بالعالم أيضاً، في شكل بصري في المقام الأول. كانت كتابة تحتفي بالبصري ومفردات السينما. وأنا درستُ السينما بسبب شغفي بها، لكني في النهاية لم أوفّق في تحقيق طموحي في هذا المضمار، فكانت الكتابة المطعّمة بروح السينما بمثابة جسر بيني وبين هذا المجال. لذلك في «عربة تجرها الخيول» لم أهتم بالتصنيف، تلك كانت الكتابة كما كنت أراها في تلك السنوات. > غالبية كتبك صادرة عن وزارة الثقافة، فما سببُ تمسكك بالنشر الحكومي؟ - مبدئياً أنا ضد أن يدفع الكاتب جنيهاً واحداً لينشر كتاباته، ليس منطقياً أن يمزّع الكاتب من روحه ويكتب ثم يجد نفسه مطالَباً بأن يدفع أيضاً لنشر تلك الكتابات. وهذا عامل جذب أول يدفعني للتعامل مع الناشر الحكومي، كما أنني أرفض أن يتدخل أي أحد في نصوصي ويطالبني بالحذف أو الإضافة أو التعديل. بخلاف ذلك فأنا أحصل على منحات التفرغ من وزارة الثقافة، وبالتالي تكون هي أَولى جهة بنشر كتاباتي. لكن هذا لا يعني أنني (ابن الدولة) كما قال لي أحد وزراء الثقافة، فأنا ابن نفسي ولست ابن أي جهة أخرى. لكن في شكل عام، فإن تجربة النشر الحكومي والخاص تقول أنه ليس هناك تقدير للكاتب والكتابة في مصر. > لماذا تختار أن تتعامل مع الإعلام بنوع من النفور والزهد؟ - هذا حدث خلال السنوات العشر الأخيرة. أنا أكتب منذ ثلاثين عاماً، فماذا حدث؟ لا شيء. لم يتغير شيء. الحقيقة أن الكتابة خذلتني. ليست الكتابة فقط؛ الوضع في مصر كله خذلني وخصوصاً الطبقية التي تسيطر على المجتمع. حتى مدينتي بورسعيد خذلتني. الجيل الذي أُحسب عليه (جيل التسعينات) خذلني وواجهني بالكثير من التجاهل. > لمناسبة الحديث عن الأجيال... هل تؤمن بمفهوم المجايلة الأدبية؟ - لا بالطبع. هذه العملية نوع من التنميط، وتحصر الكاتب في زاوية ضيقة، بل وتساهم في تأجيج مسألة الشللية المنتشرة في الوسط الثقافي المصري، وتصبح بمثابة عامل في مسألة الجوائز ومنحها بالدور. نعم الجوائز في مصر تمنح بالدور. أما الأجيال الأدبية في الغرب مثل جيل 47 في ألمانيا وجيل الهزيمة أو البيت في أميركا فوضعهم مختلف، لأن هناك منظومة تتيح حضور فكرة المجايلة في الثقافة الغربية، وحتى إذا كان هناك مناوشات أو حوار بين جيلين فإن ذلك يكون على أسس. أما في مصر فالوضع مختلف. كذلك من زاوية فنية فإن أعمالاً مختلفة لكتّاب يحسبون ضمن جيل بعينه، تضع أصحابها في أماكن خارجة عن سياق ذلك الجيل، مثل «داريا» لسحر الموجي، أو «لمسة من عالم غريب» لمصطفى ذِكري اللذين يحسبان على جيل التسعينات. وعموماً كل الإنجازات الخاصة بجماليات الكتابة تكون بعيدة من التنميط والقولبة والتصنيف. > تباينت ردود أفعال العرب على فوز البيلاروسية سفيتلانا ألكسيفيتش بنوبل للآداب، البعض قال إن الجائزة مسيّسة وهي صرخة احتجاج غربية أمام التغوّل الروسي، والفريق الآخر يراها بمثابة تكريم لمُعلّمة تؤصل وترسخ للون كتابي جديد... إلى أي الفريقين تنحاز؟ - أراوح بين الرأيين، لأن كل كاتب حصل على جائزة نوبل يستحقها بجدارة. أما في ما يخص كونها مسيّسة، فهم يرشحون كل عام قائمة من الأسماء، وتتم تصفيتهم على قاعدة الأجود فنيّاً، ثم يتم اختيار واحد من هؤلاء المبدعين، وهنا يتدخل العامل السياسي أو الديني والاجتماعي. وهذا لا يعني مثلاً أن نجيب محفوظ دخل من الأبواب الخلفية، أو أن باموق حصل عليها لأنه اعترف بمذابح تركيا العثمانية ضد الأرمن. كلاهما يستحقها فنياً قبل أن ينالها بسبب انحيازاته وأفكاره السياسية. هذه هي طريقتهم منذ الدورات المبكّرة للجائزة. > أخيراً... كيف تقيّم أداء وزارة الثقافة المصرية في ولاية حلمي النمنم؟ - كلمّا قارنتُه بالوزير السابق عبدالواحد النبوي أشعر بتفاؤل بفترة النمنم، فهو ابن الوعاء الثقافي المصري، على عكس السابق، كما أنه استطاع خلال الشهر الأول لتوليه الحقيبة أن يصطدم بمن يرفضون مدنية الدولة المصرية، كما بدأ يشتغل على إعادة هيكلة المجلس الأعلى للثقافة، وهذه النجاحات ترجع إلى أنه مارس العمل الثقافي في مواقع ومسارات عدة، فضلاً عن كونه مثقفاً حقيقياً وواعياً، يعرف ضرورة أن تتدفق الثقافة إلى كل البلاد، حتى تلك المناطق النائية مثل حلايب وشلاتين في أقصى جنوب مصر، وتلك المناطق التي تعاني التهميش.
مشاركة :