يفضل عز الدين بن يقعوب أن يقطن في الحوش بـ”دار الضيافة” بجزيرة جربة بدل التوجه إلى نزلها الفخمة على شواطئها، كلما كان في عطلة أو في زيارة عمل قادما من باريس حيث يقيم. وفي حين كان الصخب والضغط المروري يسيطران على جانب من الجزيرة بسبب الاحتفالات الدينية الموسمية في “كنيس الغريبة” اليهودي، فإن الهدوء يعم أركان دار الضيافة الكائنة في منطقة الرياض التي تتجاور فيها عائلات يهودية ومسلمة. الحوش الجربي يتميز بسحر خاص إذ يكرس خصوصية الجهة في طريقة العيش والمأكل والمشرب وأسلوب الحياة ويقول عز الدين الذي يعمل متعهدا للتظاهرات الثقافية والرياضية، “في هذا المكان تجد الراحة والهدوء. يمكن أن تشعر بأصالة البناء والطابع الثقافي في كل زاوية ولكن في نفس الوقت هو مكتمل الرفاهة”. تضم الدار المصنفة من فئة ثلاثة نجوم 16 غرفة كلاسيكية من بينها غرف مخصصة للعائلات. وهي تمثل الفندق الوحيد في منطقة “الرياض”. وتعود ملكيته اليوم إلى مديرته الإيطالية كيارا العلاني وزوجها رجل الأعمال التونسي صلاح العلاني الذي أعاد تهيئته وافتتح في العام 2000. وتعكس الدار إحدى الخطط المعلنة من الحكومة في بدايات القرن الحالي لدفع الاستثمار في القطاع السياحي بالجزيرة، وهي واحدة من بين العشرات من المنازل التقليدية التي يطلق عليها “الحوش الجربي” والتي تم تحويلها إلى إقامات فندقية مصغرة. وتتميز هذه الديار بسحر خاص إذ أنها تكرس خصوصية الجهة في طريقة العيش والمأكل والمشرب وأسلوب الحياة ووقع تسميتها “ديار” نظرا للحميمية التي يشعر بها النزلاء فيها. وعلاوة على التنوع الثقافي والديني الذي يحيط بدار الضيافة في منطقة الرياض، يمكن معاينة بوضوح داخل الدار المزيج المعماري الذي يمثل خليطا من المعمار البربري للجزيرة والإسلامي والموريسكي الوافد. ويقول عز الدين “هنا موطن اليهودي والمسلم والبربري والمالطي والفرنسي والإيطالي والقرطاجيون والرومان وغيرهم كثير، هذه ميزة جزيرة جربة التنوع الكبير والضارب في القدم. علينا أن نفخر بهذا”. تتصدر جرتان كبيرتان مدخل الفندق ويحتاج زائر الدار لأول مرة إلى أن يقطع ممرات ضيقة بين غرفه وقاعات الجلوس المفتوحة ببنيتها المحلية ومؤثثة بأثاث يغلب عليه طابع البداوة، حتى يصل إلى الفناء الخلفي حيث المسبح وحوله طاولات. ويعود هذا “الحوش” لدار الضيافة، إلى بدايات القرن العشرين وقد حافظ المستثمرون على هيئته الأصلية لكن وقع إضافة ممرات داخلية لمنح خصوصية أكبر للغرف. سباحة بلا ضوضاء سباحة بلا ضوضاء وتقول الموظفة المكلفة بإدارة الفندق، “يأتي الناس من كل أنحاء العالم من ليبيا والولايات المتحد واليابان وأميركا اللاتينية ومن الدول الأوروبية ودول الخليج ومن باكستان. يأتي الزوار اليهود في احتفالات كنيس الغريبة من كل أنحاء العالم لكن الفندق ليس موجها لفئة محددة من السياح”. ويقدم مطعم الدار أطباقا من المطبخ التونسي والمطبخ المحلي الجربي بجانب أطباق من المطبخ المتوسطي وتعتمد في أغلبها على غلال البحر واللحوم. وللحفاظ على جاذبية الدار على مدار العام فإنها تخضع بشكل دوري إلى أعمال صيانة لمنع تسرب الرطوبة من شواطئ الجزيرة. ويقول الباحث المتخصص في تراث جزيرة جربة حسين الطبجي “عرف الحوش الجربي بأصالته لأنه يستجيب لاحتياجات العائلة في علاقتها بالطبيعة والسماء. وعرف أيضا بطرافته من حيث هندسته المعمارية”. من ميزات الحوش الجربي أنه يبنى من الحجارة ومواد محلية ويتيح شكله الدائري الشبيه بالحصن انحسار الهواء البارد بين أركانه في فترة الحر القائظ الذي يجتاح الجزيرة في الصيف والاحتفاظ بالدفء في فصل الشتاء وتقوم بنيته على بهو وسط الدار محاط بغرف منفردة لأفراد العائلة وأبنائها المتزوجين، ويكون مجالا مشتركا لتناول الطعام أو المسامرات أو الاحتفال. ويقول الطبجي “طبيعة البناء في الحوش ساهمت في بقاء العائلة متماسكة كما أنها متناغمة مع مناخ جزيرة جربة ولها ميزة التكييف الطبيعي باعتماد معايير فيزيائية معقدة”. وعادة لا يتواجد الحوش الجربي بوسط المدينة ولكنه ينتشر على نطاق واسع في الأرياف والضيعات في مساحات متباعدة ويقترن موقعه مع أشجار النخيل والزيتون. ويحمل كل حوش لقب العائلة. سحر الماضي في الحاضر سحر الماضي في الحاضر ويقول المهندس المعماري أنور بن معيز “اعتمد البناء منذ القدم على المواد المتوفرة في الجزيرة مثل الصلب والصنور والخشب المستخرج من أشجار الزيتون”. وعلى الرغم من شهرته الواسعة فإن الحوش الجربي لم يعد جاذبا لسكان الجزيرة التي تعد إحدى أبرز الوجهات السياحية في البحر المتوسط. وعلى طول الطريق في مدخل الجزيرة يمكن ملاحظة الفيلات على النمط الأوروبي بينما تندر رؤية الأحواش التقليدية. ويوضح بن معيز، “منذ عقد الستينيات من القرن الماضي تناقص الطلب على الحوش الجربي بسبب تطور طرق العيش وتوافد أساليب البناء المعاصر”. وتابع قائلا “ما حصل منذ ذلك التاريخ هو أن الكثير من الأحواش تدهور وانهار إما بسبب التعقيدات القانونية المرتبطة بالميراث أو نتيجة الإهمال وغياب أعمال الصيانة الدورية”. مع ذلك لا يزال القليلون في الجزيرة يتشبثون بـ”الحوش” لا سيما الذين هاجروا للعمل في شمال البلاد في العاصمة أو إلى إحدى الدول الأوروبية. ويقول بن معيز “في الغالب يكون الإقبال مقصورا على بناء الحوش. البعض يعود إلى هذا البيت بدافع النوستالجيا والبعض الآخر يفضل البناء التقليدي القديم مع إضفاء مسحة عصرية من أجل الاستمرار في تقبل الحوش”. في الأثناء يعمل نشطاء وجمعيات من المجتمع المدني في الجزيرة على إعداد ملف لإدراج جزيرة جربة في التراث العالمي. وتمثل الأحواش باعتبارها تراثا حضاريا ماديا، إحدى ركائز هذا الملف.
مشاركة :