وما الدهر إلا من رواة قصائدي إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا - المتنبي- لو تتبعنا السيرة الذاتية للشعر العربي سنكتشف أنه يمر في كل حقبة زمنية بأزمة منتصف العمر فبعد القوة والسلطة والتأثير تتراجع جاذبيته حتى يوشك القول بأن نهايته قد اقتربت. فبعد سيطرت سلطة الشعر على عقلية العربي في جاهليته حتى أنه عُدّ «ديوان العرب» وهذا مصطلح يحتاج إلى التدقيق من حيث صدقية صلاحية التطبيق وواقعيته. فهل حقاً كان الشعر هو الممثل لواقعية حياة العرب في جاهليتهم؟ أو أنه كان يُصدّر نموذجاً لحياة العرب يخالف واقعهم؟ ألم يُقل أجمل الشعر أكذبه «فالشعر كذب وهزل، وأحقه بالتفضيل أكذبه» كما قال زياد بن أبيه. أو كما قال الأحوص الأنصاري: وما الشعر إلا خطبة مؤلف بمنطق حق أو بمنطق باطل ولعل اختلاف التطابق بين واقع المجتمع العربي قبل الإسلام والشعر الجاهلي الذي كان ممثلاً لنموذج مختلف عن تطبيقات الواقع هي التي أسقطت طه حسين في «نظرية أن الشعر الجاهلي المنحول». باعتبار أن شبهة الكذب سواء في دلالتها الرمزية أو الواقعية تهز إطار مصداقية أفكار الشعر. وعدم التطابق هذا بين الواقع في صدقيته وممثلاته في الشعر عبّر عنه القرآن الكريم «بالغواية وعدم مطابقة بين القول والفعل». وهذا المسار الكاشف لحقيقة الشعر في مطلع الإسلام نقله إلى أزمة منتصف العمر وتراجع جاذبيته؛ ليس لوقوعه في شبهة الغواية فقط بل لتراجع مرتبة تأثيره فبعد أن كان الشعر متصدراً ثقافة العربي في جاهليته تراجع إلى المرتبة الثالثة يسبقه القرآن الكريم والحديث النبوي، حتى أوشك البعض على القول بأن الشعر في مطلع الإسلام كان يعيش نهايته. قد يبدو مصطلح «النهاية» مصطلحاً جاحداً لأهمية وقيمة الشعر التاريخية أو قد يُنظر إليه من هذه الزاوية، والحقيقة أن مصطلح «النهاية» هو مصطلح ذو دلالة ظرفية، أكثر من كونه دلالة برهانية. وبعد التقاط العرب أنفاسهم بعد الفتوحات، وانشقاق الصف السياسي للمسلمين وفتنة القميص الكبرى، عاد العرب إلى خيمة الشعر مرة أخرى ليتصدر المشهد الثقافي للعرب، واستمر وهج الشعر حتى أطراف العصر العباسي الثاني ليعيش مرة أخرى أزمة منتصف العمر فتراجعت جاذبيته وانزوى في زاوية ضيقة في ساحة المشهد الثقافي العربي؛ وكان السبب هذه المرة غلبة البديع الذي أفقد الشعر مضمونه الفكري، مقابل شيوع دراسات المنطق والفكر والجدل الفكري الذي اتسعت مساحته بين العلماء والفلاسفة هذا الجدل الذي سحب الضوء من دائرة الشعر، وظهور البذور الأولى للنخبوية الشعرية التي تجلّت في حديث أبي تمام مع إعرابي حينما قال: لماذا لا تقول ما يُفهم فرد عليه ولماذا لا تفهمون ما يُقال». كانت عودة الشعر في كل مرة بعد أزمة منتصف العمر ما قبل العصر الحديث دون إطار وصفي، لكن عودته في العصر الحديث مع ركود أزمته كانت ضمن إطار وصفي «البعث والإحياء» من خلال شعراء عصر التنوير العربي بريادة محمود سامي البارودي وأحمد شوقي على النهج الجديد لقصائدهم «البعث والإحياء» بتتبع نهج القصيدة التقليدية في العصر الجاهلي إلى العباسي كون القصيدة في هذه الفترة الزمنية كانت تمثِّل النموذج الكامل للنضوج الفني للشعر العربي. ولذا لا نندهش بأن شعراء مدرسة البعث والإحياء كدلالة مضادة للنهاية في دلالتها الظرفية قد «حذو القذة بالقذة «فضاعت شخصيتهم الإبداعية داخل عباءات شعراء العصر العباسي والجاهلي وتاهت أساليبهم الخاصة تحت هيمنة أساليب شعراء العصر الذهبي للقصيدة العربية حتى أصبحت قصائدهم تتنفس قصائد أسلافهم من خلال المعارضات الشعرية. وهذه المحاكاة الفنية التي أفقدت شعر مدرسة البعث الأصالة والإضافة كانت فرصة لمنتقديهم للسعي إلى إيجاد منهج شعري جديد يُحرر الشعر العربي الحديث من هيمنة القصيدة العربية التقليدية، ورغم ذلك استطاع شعراء مدرسة البعث بإعادة الشعر إلى الحاضنة الشعبية ولو كان من خلال عربة القصيدة التقليدية، في حين فشل شعراء التجديد في جذب تلك الحاضنة الشعبية إلى ساحتهم الشعرية. ترتبط «بورصة الشعر في علوها وهبوطها» غالبا بمعطيات عدة منها: حالة المجتمعات العربية الاجتماعية و السياسية و الثقافية والتعليمية، مدى تأثير الشاعر في الوجدان الشعبي، القوة التسويقية للشعر، وهي قوة مصاحبة دوما لمدى تأثير الشاعر في التغيرو القيادة، توهج البدائل الثقافية التي تحيط بالشعر والتي تخرجه من دائرة الضوء و تستأثر بالقبول و الجاذبية الشعبية. ولو قسنا اليوم تأثير جاذبية الشعر وفق المعطيات السابقة سنقول إنه يعيش أزمة منتصف العمر، أو هكذا أظن.
مشاركة :