تُعد هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا) التحدي الأكبر لتركيا في خطتها لاجتياح شمال سوريا بالنظر إلى حرص قادتها على استرضاء الولايات المتحدة والدول الأوروبية للخروج من قوائم الإرهاب. وإذا عادت العلاقات بين أنقرة وواشنطن إلى مربع التأزم وتعامل قائد هيئة تحرير الشام أبومحمد الجولاني كعادته مع هذا التطور ببراغماتية، باستطاعته تحويل حلم تحالفه مع واشنطن إلى حقيقة على حساب النفوذ التركي، ما يعني التمهيد لسحب البساط من تحت أقدام أنقرة في إدلب. وعكست المؤشرات السلبية على الأرض التي واكبت التلويح التركي بعملية عسكرية جديدة في الشمال السوري عدم وجود ما يدعمها ويضمن نجاحها من جهة تحقيق الحد الأدنى من التعاون والتنسيق بين أهم وأكبر تلك الفصائل المسلحة المدعومة من أنقرة. وأثبتت الأزمة الأخيرة التي نشبت بين هيئة تحرير الشام والجبهة الشامية، وهي أقوى فصيل مسلح ضمن الجيش الوطني السوري الممول من تركيا، أن الجولاني حريص على استغلال المستجدات لتحقيق مصالح حركته حتى لو كانت على حساب تركيا ذاتها. ودأب الجولاني قبل ذلك على تجريب اختراق صفوف الجبهة الشامية بهدف تحقيق مساعيه الرامية إلى إيجاد موطئ قدم له في منطقتي درع الفرات وغصن الزيتون المحتلتين من تركيا، ويحاول الآن تنفيذ ما فشل فيه سابقا مستغلًا التلويح بالتحرك التركي وتعاون بعض قادة الجبهة معه. ويناور الجولاني لتوسيع مساحة سيطرته على حساب نفوذ ومناطق سيطرة خاضعة لفصائل أخرى منافسة تدين بالولاء لأنقرة، مثل الجبهة الشامية. الجولاني حريص على استغلال المستجدات لتحقيق مصالح هيئة تحرير الشام حتى لو كانت على حساب تركيا ولا تكفي المواقف المعلنة للفصائل للحكم على مدى مصداقيتها وإسهامها في دعم القرارات التركية المصيرية وإنجاح خطط أنقرة، وبالمقارنة هناك فارق بين الأقوال والأفعال، حيث أعلنت غالبية الفصائل عن ترحيبها بالعملية العسكرية التركية واستعدادها للمشاركة فيها، خاصة الفصائل العاملة في منطقتي درع الفرات وغصن الزيتون، بينما حاولت كبريات تلك الفصائل خلق حالة من الفوضى بهدف عرقلة العملية العسكرية التركية حتى لا تعزز نفوذ وهيمنة الفصائل المنافسة الساعية لإضعافها وفي مقدمتها هيئة تحرير الشام. وتخشى الجبهة الشامية من أن تؤدي العملية العسكرية المنتظرة إلى زيادة أسهم غريمتها هيئة تحرير الشام من جهة، وخدمة مصالح خصومها الآخرين مثل هيئة ثائرون التي تربطها علاقات أكثر قوة وثباتًا بأنقرة. وافتعلت الجبهة الشامية المشكلة التي مهدت للأزمة الأخيرة مع هيئة تحرير الشام التي هددت بنشوب معارك موسعة بين الهيئة والجيش الوطني السوري من خلال عزل القياديين أبوحيدر وأبوعدي من قيادة القطاع الشرقي بالجبهة، وهو القطاع المنقسم نتيجة اختراقات الجولاني لحركة أحرار الشام واحتضان الجبهة الشامية لجزء منه منذ العام 2017. ولم يكن عمل الجبهة الشامية التي تنشط داخل الجيش الوطني السوري (الجيش الحر سابقا) تحت مسمى الفيلق الثالث، على إعاقة العملية العسكرية التركية بالشمال السوري مظهر الخلاف وتناقض المصالح الوحيد بينها وبين أنقرة، فقد رفضت الجبهة في السابق سياسة أنقرة المتعلقة بتجنيد مرتزقة سوريين والزج بهم في صراعات خارجية، وعمدت إلى التخلص من أبرز قادة الفصائل المقربين من تركيا الموكل إليهم مهمة تجنيد ونقل المرتزقة، وفي مقدمتهم محمد أبوعمشة قائد فصيل سلطان شاه. كما قلصت الجبهة في السابق حركة المرور عبر معبر باب السلامة الذي تسيطر عليه ما أثر على تحركات هيئات تابعة لأنقرة ردًا على منعها قادة الجبهة من دخول الأراضي التركية عبر المعبر نفسه لأسباب أمنية. تأثيرات وتنازلات واقع الانقسامات والصراعات وتضارب المصالح يحول دون مسايرة الأطماع التوسعية لأنقرة واقع الانقسامات والصراعات وتضارب المصالح يحول دون مسايرة الأطماع التوسعية لأنقرة ولا تنحصر الصراعات بين هيئة تحرير الشام وفصائل الجيش الوطني السوري، حيث يسود التوتر والتهديد المستمر العلاقة بين الهيئة وفصيل جيش الإسلام، ولذلك أشرف الجولاني مؤخرًا على حفر خندق يفصل بين مناطق سيطرتها ومناطق سيطرة القوات الموالية لتركيا. ويُصنف جيش الإسلام الذي استقر في مناطق الاحتلال التركي في الشمال السوري كأكثر الفصائل عدائية تجاه هيئة تحرير الشام وزعيمها الجولاني نظرًا إلى انتماء جيش الإسلام للسلفية العلمية فيما تتبع الهيئة السلفية الجهادية. حرم العمل على الفصل المناطقي بين مساحات سيطرة هيئة تحرير الشام بشمال إدلب ومساحات سيطرة الجيش الوطني وجيش الإسلام، خطط تركيا الرامية إلى إقامة منطقة آمنة من عوامل نجاحها الرئيسية المتمثلة في توحيد صفوف الفصائل الموالية لأنقرة، بحيث تؤخر كل منها مصالحها الذاتية وتركز على مصالح الداعم الإقليمي. ويحول واقع الانقسامات والصراعات وتضارب المصالح بين الفصائل الموالية لتركيا، وبينها والفصائل المعادية لها، دون مسايرة الأطماع التوسعية لأنقرة في الشمال السوري. ولم تسفر جهود أنقرة من أجل توحيد الفصائل الموالية لها أو على الأقل التقريب بينها عن شيء إيجابي ولعب انقسامها بين أجنحة وكيانات متنافسة وارتباط بعضها بجهات دولية وإقليمية دورًا كبيرًا في إعاقة خطط تركيا. ولا تملك أنقرة ما تضغط به على هيئة تحرير الشام لتقلل من التوترات بينها وبين باقي الفصائل وتقديم تنازلات بهذا الشأن، حيث تنظر إلى أن تمدد الهيئة يخدم مصالحها وليس العكس رغم الخلافات بينهما. تركيا تتغاضى عن الخلافات مع هيئة تحرير الشام وعن تجاوزاتها بحق بعض الفصائل أملا في الإبقاء على فرضية وجود غطاء يمثل تيار الإسلام السياسي يصبغ الشرعية على الاحتلال التركي وتخطط أنقرة على المدى البعيد للمساومة بورقة الهيئة مقابل امتلاك واشنطن لورقة حليفتها في شرق سوريا قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، فإذا كان كلاهما ينظر إلى حليف الآخر كإرهابي فإن التسوية المفترضة تقتضي التخلي الأميركي عن دعم الأكراد مقابل أن تتخلى أنقرة عن دعم هيئة تحرير الشام. وتتغاضى تركيا في المجمل عن الخلافات مع هيئة تحرير الشام وعن تجاوزاتها بحق بعض الفصائل وبحق أنقرة ذاتها، أملًا في الإبقاء على فرضية وجود غطاء يمثل تيار الإسلام السياسي يصبغ الشرعية على الاحتلال التركي، ويمثل أنقرة على طاولة المفاوضات الإقليمية والدولية. وتأجلت خطط تركيا الرامية إلى بدء العملية العسكرية في مناطق بشمالي سوريا نتيجة رفض جميع الأطراف الدولية لأي تحرك عسكري تقوم به أنقرة في العمق السوري. وانفض اجتماع المجلس العسكري الأعلى التركي قبل أيام دون إعلان عن موعد محدد لبدء عملية واسعة وصفها مسؤولون أتراك بأنها ضرورية ولا مفر منها للأمن القومي لبلدهم، وذهبت تكهنات إلى أنها ربما تنطلق نهاية يونيو الجاري. وللحد من تأثيرات الرفض الأميركي والدولي المعلن للعملية، تراهن أنقرة على المناورة مع روسيا لعقد صفقة تسمح لها بشن هجمات محدودة. وتحتاج روسيا التي أبدت الجمعة موقفا غير مؤيد للعملية لكنه اتسم بالهدوء نسبيا مقارنة بمواقف واشنطن التي تعارض العملية بشدة، إلى إعادة فتح المجال الجوي أمام طيرانها والاستفادة من اهتزاز علاقات تركيا بواشنطن لتكريس حيادها في الأزمة الأوكرانية. وفي المقابل، تخطط أنقرة لنيل دعم موسكو في ملفات تهمها على صلة بالخلافات مع الناتو، خاصة مسألة رفض انضمام السويد وفنلندا إلى الحلف، ومحاولة عزل اليونان سياسيًا. توظيف التناقضات الدولية سير باتجاه دعوة إلى قبول مقايضة لتحقيق الهدف ذاته سير باتجاه دعوة إلى قبول مقايضة لتحقيق الهدف ذاته تبعث المواقف التركية التي تنطوي على التلويح بعقد صفقات مع روسيا من بين السطور برسائل لحلف الناتو والولايات المتحدة بشكل خاص مفادها أن أنقرة مستعدة أيضًا لعقد صفقات معها نظير وقف تبادل المصالح وعقد الصفقات مع موسكو. وهذا يعني أن سير الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لخطوات باتجاه موسكو هو دعوة إلى حلف الناتو لقبول مقايضة لتحقيق الهدف ذاته مؤداها قبول أنقرة بانضمام السويد وفنلندا إلى الحلف مقابل الحصول على دعمه في مشروع المنطقة الآمنة التركية في شمال سوريا، ومنحها الضوء الأخضر لبدء العملية العسكرية في أقرب فرصة. ولا ترغب تركيا في تفويت الظرف الدولي الحالي بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، وهو ما فتح المجال لمناورات سياسية متعددة بهدف تنفيذ مشروعها القديم – الجديد الذي تتحصل بمقتضاه على المزيد من المناطق في الشمال السوري ووضعها تحت نفوذها المباشر أو غير المباشر. قد تنجح تركيا في حض روسيا على الصمت والحصول على أوراق تفاوض أكبر، على الرغم من أن العملية العسكرية المرتقبة تؤثر على تمركز بعض قواتها في شمال شرق سوريا، والتي لا تزال تحت إدارة دمشق، بالنظر إلى حاجة موسكو الملحة للتقارب والتنسيق مع أنقرة. ويمكن حدوث اختراق للرفض الغربي للعملية العسكرية بالنظر إلى الحرص على كبح التقارب التركي – الروسي في الملفين الأوكراني والسوري. ويسمح هذا الاختراق، وفق رؤية تركيا، بتقطيع أوصال الكيان الكردي وملاحقة أوكار حزب العمال الكردستاني لمنع ما دأبت أنقرة على وصفه بـ”ممر الإرهاب” بذريعة تأمين العودة الآمنة للاجئين السوريين في تركيا.
مشاركة :