كان معرض الكتاب بالنسبة لنا في الماضي من الأمنيات التي نودّ أن تتحقق على أرض الواقع، حين كنا نتوجه زرافات ووحدانا حسب إمكانات الفرد الذي ربما اقتطع من مصروفه، وادّخر من دخله مبلغا يمكنه من السفر إلى القاهرة لحضور معرض الكتاب الذي كان الأشهر والأكبر، والذي يضم الناشرين العرب والأجانب في قاعات تعد لهذا الغرض، وكلّ يعود بحمله مما اقتناه من كتب تجشم صعوبة حملها، وزحزحتها من مكان إلى مكان (من المعرض إلى الشقة أو الفندق ثم إلى المطار)، وقد يدفع ما يقارب القيمة كزيادة شحن، وقد يكون الرقيب في استقبالك في المطار محتجزاً بعض الكتب طالبا مراجعتك لإدارة المطبوعات، أو مصادراً كتاباً، أو كتباً سجلت في قائمة الممنوع في وقت سابق وقد مضى على سبب المنع الذي تلاشى أكثر من عقد. وكانت البذرة الأولى لمعرض الكتاب في (جامعة الملك سعود) حيث أقيم المعرض الأول وكان لافتا حيث كثافة الكتب ومشاركة دور النشر العربية التي راعت الظروف حسب الشروط التي تلقتها من منظمي المعرض، فعلت الوجوه الفرحة والارتياح، وتبودلت التهاني بين المثقفين من المعنيين بالكتاب، وكانت ابتسامات المشاركين العريضة التي ارتسمت على وجوههم وهم يرون المقتنين يجمعون الكتب في الشنط والأكياس ويدفعون ما يطلب منهم من مال دون مراجعة أو (مفاصلة)، ثم لحقت بها بعد فترة جامعة الإمام محمد بن سعود بإقامة معرض مماثل، وكان الإقبال شبيها أو أكثر بفعل تزايد القارئين. تحققت الأماني بعد أن طالت، فكانت البشرى ممثلة بمعرض الرياض الدولي للكتاب، فقد كان رائعاً تنظيماً، وحضوراً، وصاحبته نشاطات ثقافية تمثلت في الندوات وحفلات التواقيع، واستمر كل عام في تحسن، وخاصة عندما صار للجميع ذكوراً وإناثاًو فالأسرة بكاملها قد تحضر ويختار أفرادها من الكتب كلّ حسب حاجته وما يمليه عليه مزاجه، وبالرغم من المنغصات التي يفتعلها بعض المتشددين، فقد عملت الجهات الأمنية المعنية على المساندة في التنظيم والترتيب لكي يكون المعرض مستمراً في نشاطاته التي اجتذبت المهتمين والناشرين، وصار محط أنظار كبار الناشرين الذين ما أن يعلن عن معرض الرياض إلا وهبوا بالمبادرة طلباً بالمشاركة، وكان لدورالنشر المحلية حضورها الذي يزداد كل عام عن الآخر بفضل ما تقدمه من كتب متنوعة تشبع النهم الذي يزداد عند القارئين للاستحواذ على أحدث الكتب، بغية الاكتشاف والمتابعة، وصار معرض الرياض هو الأول عربياً دون منازع في السنوات الأخيرة حسب شهادات المشاركين من الداخل/الخارج. واليوم يجيء معرض جدة الدولي للكتاب تحت شعار (اقرأ) وهو شعار له مكانته التاريخية، وله في قلوب المسلمين والعرب التقدير، حيث الأمة القارئة والتي قامت على المعرفة وتطويرها في مراحلها الأولى وازدهارها، ولكن الظروف التي تكالبت عليها أبعدتها، وأثارت بينها الفتن والانشقاقات والتناحر، فكان الزمن كما حدثنا التاريخ في عصر (الانحطاط) يجري ويمسح المنجزات الأولى، ولكن اقرأ بقيت، وباقية مدى الحياة، وما يسعد اليوم أن معرض جدة قد أُعدّ له وخُططَ له بطريقة علمية راسمة الحاجة مكتملة، وكيفية التعامل معها، لكونه في تنظيمه قد درس الإيجابيات والسلبيات التي صاحبت معرض الرياض الدولي في دوراته السابقة، وقد قام بالدراسة متخصصون في الكتاب صناعةً وعرضاً، وخبراء بما ينبغي أن تكون عليه المعارض، فكانت الندوات المصاحبة، وحفلات التوقيع، وتنظيم المسارات والدور المشاركة وتوزيعها؛ بحيث يسهل على رواد المعرض الوصول إلى الكتب التي يريدون دون عناء، وقد خصصت استعلامات تقنية ترشد الزوار، وكل ذلك من أجل أن تسهل أمور من يهمهم الحضور من المثقفين/المثقفات، وغيرهم ممن يرى أنه يرغب في الاطلاع على الكتب ويقتنيها بعد أن عرف الفائدة المرجوة من القراءة ومدى تأثيرها على المجتمع كافة من ناحية الزيادة المعرفية، والمساهمة في دفع عجلة التطور إلى الأمام كلما كانت القراءة وسيلة للاستنارة، واستظهار ما يدور في العالم من منجزات علمية وفنية وإبداعية هدفها المراد تحقيقه تمكين الإنسان من ممارسة إنسانيته بكل ثبات واستقامة، وقدوته في ذلك من يقدم له خريطة الطريق السليمة الموصلة إلى غايات المعارف والعلوم التي يحتاجها كإنسان يعي ويدرك ويفكر، ويعمل من أجل حياته والآخرين بكل إخلاص ومحبة، ومشاركة وجدانيّة تطول وتعرض حتى تعم المعمورة بما تقدمه من خدمات إنسانية، علامة إخاء وود بين الإنسان وأخيه الإنسان في تَجْسيدٍ لإنسانية الإنسان. معرض (اقرأ) على شاطئ البحر الأحمر هو إضافة مهمة جداً في الدليل المؤكد على اهتمام القيادة بمسألة التطور وبناء الإنسان الذي يساعد على التطور، وما يحدث في الاهتمام بالكتاب، يعكس الحرص على التوسع في رقعة المعرفة والثقافة في حياة إنسان بلادنا ودفعه على الركض وراء اكتساب المعارف، وهذا هو الهدف النبيل.
مشاركة :