معضلة التعليم على طاولة الوزير الجديد - يوسف بن عبدالعزيز أباالخيل

  • 12/16/2015
  • 00:00
  • 11
  • 0
  • 0
news-picture

في البدء، أبارك لمعالي وزير التعليم الجديد، الأخ والزميل الدكتور أحمد بن محمد العيسى، ثقة خادم الحرمين الشريفين بتعيينه وزيرا للتعليم، فلقد كان معاليه زميلا لنا في جريدة الرياض، جمعتنا وإياه صفحة (حروف وأفكار)، إذ كان يكتب فيها مقالا أسبوعيا. والوزير الجديد متخصص في المناهج وطرق التدريس من جامعة بنسلفانيا الأميركية، وسبق أن ترأس عدة مواقع أكاديمية، وله عدة مؤلفات في مجالي التربية والتعليم، من أبرزها، حسب ما قرأت من إنتاجه، كتاب (إصلاح التعليم في السعودية، بين غياب الرؤية السياسية، وتوجس الثقافة الدينية، وعجز الإدارة التربوية). ولأنه متخصص في مجاله، فإن حالي في حديثي معه لن تكون أحسن حالا من حال من يبيع الماء في حارة السقايين، أو يجلب التمر إلى هجر، أو يحمل الفحم إلى نيوكاسل. إنها مجرد خواطر مواطن يعلم علم اليقين أن مستقبل وطنه مرتهن لنوعية التعليم الذي يُقدم لأبنائه، كما أنه يعلم من جهة أخرى، أن نوعية التعليم الذي يُقدم لهم ضمن منظومة التعليم في السعودية، لا توفر الحد الأدنى من التأهيل المطلوب لتنشئة جيل نضع على عاتقه مسؤولية جسيمة، وهي نقلنا من اقتصاد ريعي يعتمد على سلعة أولية ناضبة، إلى اقتصاد صناعي منتج. على الرغم من أن تعليمنا يستهلك ما لا يقل عن (25%) من إجمالي نفقات الموازنة العامة، إلا أننا لا نزال نستقدم من يعمل في مهن لا تحتاج لإتقانها إلا إلى تعليم أو تدريب بسيط كانت دول النمور الآسيوية الجديدة، كماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة مثلا، حتى لا أقول: اليابان وكوريا والصين، ناهيك عن أن أتجاوز إلى الغرب، لا تختلف عنا في شيء من حيث نوعية اقتصاداتها الموزعة بين اقتصادات رعوية وزراعية، فإذا هي اليوم، على الرغم من أنها لا تقارن بنا في مستوى المداخيل النقدية الضخمة، سائرة، بفضل إصلاح التعليم بجعله متوائما مع متطلبات سوق العمل الحديثة، نحو تأسيس اقتصادات صناعية منتجة. أما نحن، فعلى الرغم من أن تعليمنا يستهلك ما لا يقل عن (25%) من إجمالي نفقات الموازنة العامة، إلا أننا لا نزال نستقدم من يعمل في مهن لا تحتاج لإتقانها إلا إلى تعليم أو تدريب بسيط. ليس بخاف على معالي الوزير أن ما أخر إصلاح تعليمنا لسنوات طوال، هو أن مشروعات الإصلاح ظلت تصطدم بممانعة أقلية خائفة قلقة على ما تظنه علاقة طردية بين إصلاح التعليم من جهة، والإخلال بثوابت الدين من جهة أخرى. لم يَعْدِم التعليم مَنْ توفروا على رؤى وأفكار متقدمة لإصلاح التعليم، ممن تسنموا قبلك مسؤولية التعليم، ولم تكن تنقصهم الرغبة ولا التأهيل، ولكنهم اصطدموا في الواقع العملي بممانعة الأقلية الخائفة، فآثروا السلامة على المضي قدما في إجراء إصلاحات حقيقية. لا شك أن معالي الوزير مؤهل أكاديميا ومهنيا لقيادة دفة التعليم، لكن هذين العنصرين لا يكفيان لإصلاح تعليمنا، بل لا بد وأن يتوفر معهما عنصر (تبز) به سلفك الذين سبقوك في قيادة التعليم، ألا وهو الجرأة في مواجهة اعتراضات ومقاومة ومعارضة القلة الخائفة التي كان لها قصب السبق في وأد كل مشروعات إصلاح التعليم. في ظني، أن أولى المهمات التي يجب أن تتجه إليها جهود معالي الوزير إنما تكمن في السعي إلى تطوير منهجية التعليم الحالية، من منهجية قائمة على تلقين المعلومات وحفظها، إلى منهجية تقوم على تدريب الطالب على التفكير في المعلومات التي يتلقاها وتحليلها وتفسيرها، قبل أن يفكر في حفظها، إذا كان لا بد من الحفظ. لا إخالني أذهب بعيدا عندما أزعم أن تعليمنا اليوم يقوم في غالبه على ثلاث مراحل هي أبعد ما تكون عن منهجية التعليم الحديث، وهي: تلقين المعلم المعلومات للطالب، ثم تعهد الطالب للمعلومات بالحفظ والتذكر حتى وقت الامتحان، ثم تفريغها في ورقة الامتحان، ليكون ذلك آخر عهده بالمادة. والمؤسف أن آلية التلقين والحفظ والاستذكار اللحظي لا تقتصر على المواد النظرية فحسب، بل تعدتها لتشمل حتى المواد العلمية والطبيعية، إذ نجد جمهرة من الطلبة يعمدون إلى حفظ القوانين الرياضية والمعادلات العلمية، ليُطبقوها على ما يعرض عليهم من مسائل رياضية وعلمية في ورقة الامتحان، حتى إن بعضهم لو تغيرت عليه أرقام المسائل أو المعادلات التي تدرب على حلها، لضل طريقه وأخفق لأنه مجرد حافظ. والعجيب أن هذه الآلية تأبدت اليوم كسياق عام ينتظم نظامنا التعليمي، حتى إن من حاولوا تغيير هذه الآلية التعيسة، خاصة في أول مقدمهم من بعثاتهم الخارجية، ما أن ينتظموا في سلك التعليم، حتى يجدوا بنية تلك الآلية أقوى منهم ومن محاولاتهم، فإما أن يندمجوا في الآلية رغما عنهم، وإما أن يظلوا على الهامش لا يجدون أي قبول من الطلاب، أو حتى من زملائهم المدرسين والمشرفين على العملية التعليمية! والمفجع أنه حتى مع هذه الآلية العقيمة التي لا يمكن أن تُعِد جيلا مؤهلا لأن يشارك في تنمية بلده بفاعلية، فإن خريجي التعليم العام والعالي ليسوا متفوقين حتى في المواد النظرية التي يعتمدون في دراستها على التلقين والحفظ. يشهد لذلك ما نعايشه اليوم من ضعف كبير في فرعي (الإملاء والنحو) مثلا، لكثير ممن نقرأ لهم، وبخاصة بعد شيوع منتديات التواصل الاجتماعي التي كشفت عن ضعف مروع في هذين الفرعين، حتى إنك لتجد أساتذة جامعيين، وآخرين حاصلين على شهادات عليا، ضعفاء في الإملاء والنحو إلى درجة كبيرة، حتى لقد يصح الزعم أن تعليم الكتاتيب كان يتفوق على تعليمنا النظامي فيما يتعلق بكثير من المواد النظرية التي يضمها اليوم، وخاصة مادتي الإملاء والنحو، ذلك أن خريج الكتاتيب كان قلما يخطئ في إملائه أو استخدامه للمبادئ الأساسية لقواعد اللغة العربية: نحوا وصرفا. إن التعليم الحديث الذي قفز بالعالم المتقدم اليوم إلى ذروة سنام الحضارة المعاصرة إنما يعتمد في تنشئته لأبنائه على التفكير في المعلومة بدلا من حفظها. والتفكير في المعلومة ليس شرطا أن يُسبق بحفظها، خاصة في عصرنا الحاضر الذي يستطيع فيه الطالب أن يستحضر المعلومة من لوح الكتروني صغير يضعه في جيبه. وبعد استحضار المعلومة تبدأ عملية التفكير فيها، كالتفكير في العلاقة الداخلية التي تنتظم مكوناتها. وهنا يحضر دور التعليم الحديث. يتضح ذلك، فما يخص المعلومات العلمية والرياضية مثلا، في التفكير في كيفية تشكل القانون الرياضي على الصيغة التي صيغ بها، وفي حدوده التي تحدد بها، ثم في كيفية تطبيقه على المسائل المعروضة. وهكذا مثلا بالنسبة لمعادلات المواد العلمية والطبيعية. وفي المواد النظرية، يمكن أن تدرب منهجيةُ التفكير الحديثة الطالبَ على استحضار كيفية تشكل الحدث التاريخي مثلا، وهل يتطابق مع السياق الاجتماعي والسياسي الذي حدث فيه، وكيفية تداخل العوامل السياسية والاقتصادية والإيديولوجية والمذاهب الدينية مع بعضها في إنتاج الأحداث التاريخية. كما تدرب الطالب على ربط النصوص الشرعية بمقاصدها، ورهنها لتلك المقاصد، من خلال استصحاب الشروط الذاتية والموضوعية، والتفريق بين الوسائل المتغيرة والغايات الثابتة، وانتظام ذلك كله في عملية تعليمية أفقية. وهنا، سيتمثل الطالب في مثل هذه البيئة العلمية على (نسبية) الآراء والنظريات والمقولات والمذاهب، وعلى (نسبية) الحقيقة بشكل عام، خاصة في مسائل الاجتماع البشري، بدلا من الاتجاه الرأسي الحالي، من المدرس أو الأستاذ إلى الطالب الذي يتلقفها وكأنها حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. إن الانتقال من آلية التلقين إلى آلية التفكير ليَتطلب تدشين مناهج تعليمية جديدة، فبالإضافة إلى ضرورة إدخال مناهج علوم النفس والمجتمع الحديثة ضمن المقررات، فإن التفكير في المعلومات النظرية وتفكيكها، ثم إبداء الرأي فيها، يتطلب أيضًا إعادة الاعتبار للتراث العقلاني في حضارتنا العربية الإسلامية وتدشينه في مناهج التعليم، كمنهج ابن خلدون في طبائع العمران البشري، والذي يدرب الطالب على التفكير في المعلومة التاريخية من ناحية تطابقها مع قوانين الطبيعة، ومع سنن الاجتماع البشري، وكمنهج ابن حزم بوصفه واحداً من أهم المناهج التي حاربت التقليد، وأفسحت الطريق واسعاً أمام المباح، بصفته كل ما لم يرد بحرمته نص مقطوع به ثبوتاً ودلالة، وكمنهج الشاطبي في تأسيس أصول الفقه على البرهان، وكتراث ابن رشد في تأسيس العلاقة بين الحكمة والشريعة، أو بين العقل والنقل. أعان الله الوزير الجديد على تحمل أعباء التعليم التي هي ضخمة بكل المقاييس. لمراسلة الكاتب: yabalkheil@alriyadh.net

مشاركة :