منذ إطلاق وزير الحرب الإسرائيلي الأسبق موشي يعلون مصطلحه “كي الوعي” إبان الانتفاضة الثانية، حيث كان الجنرال رئيسًا لأركان جيش الاحتلال، تحول هذا المصطلح إلى سياسة رسمية جوهرها معركة “هزيمة وعي الشعب الفلسطيني وتمسكه بحقوقه التي لا يمتلك ترف المقايضة أو المساومة عليها”. استهدفت هذه السياسة التي تطورت لاستراتيجية عمل إسرائيلية ثابتة، القضاء على ثقافة المقاومة ورفض الأمر الواقع الاحتلالي. جاء ذلك بعد تمكن باراك من دفع أغلبية المجتمع الإسرائيلي نحو ما سُمي في إسرائيل بعدم وجود شريك، ولتثبيت هذه “البدعة” التي شكلت مفتاح الانسحاب من أي عملية سياسية بعد نجاح باراك في إفشال كامب ديفيد، والسماح لشارون باقتحام باحات الأقصى، الذي فجر الانتفاضة الثانية وملخص نتائجها تدمير مؤسسات السلطة الوطنية الناشئة، استباحة الدم الفلسطيني بأبشع عمليات القتل والتدمير”محمد الدرة، ايمان حجو” ومعهما آلاف الفلسطينيين، وإعادة الاحتلال المباشر لمدن الضفة الغربية، وإهالة التراب على أية عملية سياسية جادة، دون إغفال إمكانية خلق”شريك على المقاس”. تدمير “الشريك” ومحاولة اختراع البديل كي الوعي وتغييب الشريك شكّلا معا جوهر الرؤية الإسرائيلية في التعامل مع القضية الفلسطينية، بما في ذلك هندسة الوضع الفلسطيني عبر سياسة الاغتيالات، خاصة للقيادات التي كانت تؤمن بالوحدة الوطنية وتسعى في نفس الوقت لبناء مؤسسة فلسطينية محترمة، كما كان يردد الشهيد أبو علي مصطفي والذي كان ملتزمًا بالوحدة الوطنية، ولكنه تنبه مبكرًا لأدواتها الأساسية متمثلة بالمؤسسة المحترمة الكفيلة بتعزيز الصمود، وترسيخ الديمقراطية في العلاقة مع الناس، والإخلاص لبناء تيار وطني ديمقراطي عريض، مهمته إحداث التوازن في العلاقات الداخلية وصون إمكانية تحقيق الهدفين المتمثلين بالمؤسسة والمسار الديمقراطي الحاضن لها. ولعل السبب المباشر لاغتيال الشهيد أبوعلي تمثل في إخلاصه الحقيقي لهذه الحاجة الملحة لتأطير التيار الديمقراطي العريض وتمكينه من التعبير الأمين عن صوت الأغلبية في المجتمع الفلسطيني، وقد تلاه اغتيال الشيخ ياسين ومن ثم الرنتيسي وأبوشنب، كذلك كانت مؤامرة قتل أبو عمار لإهالة التراب على الوطنية الفلسطينية الجامعة والسعي تدريجياً لشرذمتها تمهيدًا للقضاء عليها. فشل “سلام” نتانياهو الاقتصادي في حقبة نتانياهو التي كانت ذروة انقلاب المجتمع الإسرائيلي نحو أقصى اليمين، واسترضاء المستوطنين الذين شكلوا البنية التحتية لأيديولوجيا التطرف اليميني، تطورت نظرية كي الوعي وتغييب الشريك، من خلال اعتماد ما عرف بـ “سلام نتانياهو الاقتصادي”، بديلاً لأي أفق سياسي، ومحاولة امتصاص والسيطرة على ردود فعل الفلسطينيين في مواجهة حرب الاستيطان، سيما في إطار إستراتيجية احتواء قطاع غزة وتكريس حالة انفصاله، للاستفراد بالضفة الغربية وفي قلبها القدس ومقدساتها. ارتقاء الوعي و انهيار نظرية كيِّه منذ ما عُرف بـ “هبَّة السكاكين”، وهبَّة بوابات الأقصى الإلكترونية ومعركة مواجهة أبارتايد إسرائيل الأكثر وضوحًا في الشيخ جراح وسلوان وحتى الآن، يتضح بصورة جليَّة يوميًا وبصورة متدرجة مدى انهيار سياسة “كي الوعي”وتمكن الشعب الفلسطيني من إسقاط نظرية السلام الاقتصادي، ومع ذلك بقيت إسرائيل عالقة في وهمها حول مفهوم الشريك ودوره وامكانية اختراعه، وما زالت إسرائيل الراهنة تعمل على إعادة هندسته بعيداً عن جوهر الصراع ومضمونه في إنهاء احتلال وهزيمة الطابع العنصري لدولة الأبارتايد، وهي ما عُرف بنظرية “تقليص الصراع” التي تهاوت دون أن تقر إسرائيل بذلك ولعل هذا مأزقها. وعي المواطن الفلسطيني لواقعه واحتياجاته وأولوياته الجوهرية في مقاومة الاحتلال عاد للواجهة كواقع حال لدى الأغلبية الساحقة من الشعب الفلسطيني، وفي مختلف تجمعاته داخل الأرض المحتلة وفي أصقاع بلدان الشتات، بل وارتقى هذا الوعي خلال الأشهر والأسابيع الماضية بصورة غير مسبوقة منذ سنوات طويلة، يجري ذلك بعيدًا عن ثورجيات الشعارات الفارغة من ناحية، وكذلك عن محاولات اليائسين في تمرير ثقافة الخنوع وقلة الحيلة من ناحية أخرى. الشعب في واد والمنقسمون في وادٍ آخر ففي الوقت الذي ينشغل فيه الفلسطينيون يوميًا في مواجهة سياسات القتل وتدمير المنازل ومصادرة الأرض والحصار وتضييق الخناق على حياة الناس وقدرتها على الصمود والمقاومة، والتي تشكل بمجموعها محاولات شعبية جادة لإعادة بوصلة الصراع إلى حقيقتها مع المحتل، تنشغل القوى المهيمنة على ضفتي الانقسام، في معاركها الدونكيشوتية الصغيرة على ما تعتقد أن له الأولوية، وهو الصراع المركب والعبثي على السلطة، سواء بين سلطة حماس المسيطرة بالانقلاب على غزة، مع سلطة رام الله المهيمنة بتغييب إرادة الناس وحقها بالانتخابات، أو، وهو الأخطر، ما يجري من صراع داخلي على السلطة المهيمنة على مستقبل المنظمة، والمحزن أن ذلك ليس بعيدًا عن محاولات إسرائيل لاستكمال دائرة الاحتواء لبقايا الحركة الوطنية في كل من غزة والضفة، واختراع “قيادة” للشعب الفلسطيني على نموذج منصور عباس، وربما من هم على شاكلته من بعض “القيادات” في الضفة والقطاع، والذين كما يبدو أن “كي الوعي” أصابهم في مقتل لدرجةٍ لا يمكن تسميتها سوى بانهيار العقل. “مرض الرئيس”مناورة بالذخيرة الحية إن ما يدور في أقبية بقايا الحكم للحالة الفلسطينية ليس بعيدًا عن إطار إستراتيجية الاحتواء الإسرائيلية، بعد أربعة حروب ضد قطاع غزة، وتعميقها للشرخ مع الضفة، ونجاح سؤال إسرائيل المتواصل طوال سنوات العقد الماضي، والمتمثل بمن وماذا بعد الرئيس عباس؟ ليصبح اللعبة الوحيدة في المدينة، وما أحدثه من شلل استراتيجي في غياب أي شكل للفعل لمحاولة وقف الانهيار الذي يتعمق يوميًا، و الانشغال بدلاً من ذلك في لعبة هندسة السؤال الإسرائيلي، الذي كما يبدو بات من وجهة نظرها “حقيقة”، للإطاحة بما تبقى من حركة وطنية ومشروع وطني، وهذا الأمر بالنسبة لإسرائيل يستحق الاختبار بمناورة ميدانية بالذخيرة السياسية الأمنية الحية، وهذا جوهر ما تم ترويجه خلال اليومين الماضيين حول صحة الرئيس لتظهير سؤالها: ماذا بعد؟ وكذلك الحديث عن نقل صلاحيات أي من بعد؟ وذلك حتى تتمكن إسرائيل ذاتها من الإجابة على سؤالها، وهي تتابع كل همسة من ردود الفعل على هذا اللغم والكمين الذي نصبته لنا. ما العمل مرة أخرى؟! معالجة هذا الأمر لا يتم “بالتحقيق” لمعرفة من الذي سرب أو لم يسرب يا سيادة الرئيس؛ بل إن المعالجة الجذرية تتطلب الخروج الفوري من هذا الفخ الذي طوقونا جميعًا به، والانتقال للسؤال الوطني والحقيقي، وهو ماذا عليك وماذا بإمكانك أن تفعل لتحصين المستقبل الفلسطيني من إرادة المحتلين، ومن الفوضى والصراع الذي إن حدث، فإنه سيأكل الأخضر واليابس، والمفتاح فقط بيدك، وإن كنت أنت شخصياً قد حذرت يومًا في اجتماع مركزي المنظمة الذي صادق على أوسلو في نوڤمبر 1993، عن مخاطر أوسلو بين أفق الاستقلال أو تأبيد الاحتلال، فإن اللحظة الراهنة ومسؤوليتك شخصيًا، وأنت صاحب ومهندس تلك المغامرة، بأن لا نغلق بأيدينا أبواب الحرية والاستقلال، ونسقط في براثن لعبة تأبيد الاحتلال، وهذا ما يتوحد الشعب الفلسطيني حوله. وأما كيف؟ فإنه معلوم لنا جميعاً، وأنت في المقدمة، بأنه ليس من طريق سوى إستعادة دور ومكانة مؤسسات الوطنية الجامعة، التمثيلية الكفاحية والحكومية، وتحصينها بالمسار الديمقراطي الذي يشكل حصنًا منيعاً للتداول والانتقال السلمي للسلطة في إطار استراتيجية الصمود والمقاومة الشعبية التي طالما تغنينا بها، وقد آن الأوان للعمل الجاد وفقها وتوفير كل متطلباتها.
مشاركة :