كان من المتوقع منذ بداية العملية العسكرية الروسية في شرق أوكرانيا لتحرير إقليم الدونباس والقضاء على النازيين الجدد في القوات الأوكرانية أن تقف الدول الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية ضد روسيا الاتحادية, وهذا الموقف يضم حوالي 40 دولة وفرضته الولايات المتحدة فرضا بالرغم من تردد بعض هذه الدول وعدم قناعتها بخوض هذه الحرب المدمرة أو فرض قيود وعقوبات وصلت إلى أكثر من 6000 عقوبة على روسيا وذلك لمردودها السلبي والقاسي على هذه الدول الأوروبية نفسها كما على الدول الأخرى في العالم والتي بدأت أصداء تأثرها بهذه الأزمة الاقتصادية والغذائية تتصاعد وتشكل جرحا غائرا في جسم العالم اليوم. هذا الموقف الغربي تحول من مجرد الاحتجاج والتنديد بالعملية العسكرية ليتطور فيما بعد إلى فرض عقوبات اقتصادية ومالية وثقافية ورياضية لتنتقل إلى مرحلة ثالثة وهي مرحلة تزويد أوكرانيا بالأسلحة الفتاكة لضمان إلحاق أكبر ضرر ممكن بروسيا وبالقوات الروسية وإطالة أمد هذه الحرب لإنهاك روسيا اقتصاديا وماليا وعسكرية وبشريا. وقد برهنت هذه العقوبات والممارسات العدائية ضد روسيا الاتحادية خلال الأشهر الثلاثة الماضية بشكل لا لبس فيه أن الدول الغربية قد تضررت من ذلك أكثر مما تضررت به روسيا خاصة على الصعيد الاقتصادي وعلى الصعيد البشري حيث يمكننا أن نرصد النقاط التالية لتوضيح صورة هذه المعادلة التي يبدو أنها بدأت تختلف وتجبر الدول الغربية على مراجعة مواقفها وإعادة النظر في الموقف الذي فرضته الإدارة الأمريكية بجنون غير مسبوق وكراهية مدهشة. الأولى: إن اغلب الدول الأوروبية تعتمد اعتمادا كبيرا على امدادات الطاقة الروسية وخاصة الغاز الطبيعي الذي يعد المحرك الرئيسي للصناعة في هذه الدول حيث يتراوح حسب الدول من 40 إلى 70% مثل المجر أو (هنغاريا), وبالرغم من كل المحاولات الغربية الأمريكية بالضغط على هذه الدول لإيقاف هذه الامدادات أو الحد منها فإنها لم تنجح في ذلك لأن هذه العملية معقدة من الناحية التنقية وتتطلب زمنا طويلا قد يصل إلى 15 و20 سنة حسب ما نشر في الصحافة العالمية. إن روسيا تمكنت من استيعاب تلك الضغوط الناجمة عن العقوبات المالية وحجز أموالها في البنوك الأوروبية والأمريكية من خلال التحول لبيع الطاقة الروسية بالروبل وإجبار الدول الأوروبية على ذلك ومن يرفض هذا الاتجاه يجب أن يكون مستعدا للبحث عن بديل للغاز والنفط الروسيين. وقد كانت هذه ضربة معلم من الروس الذين أجبروا معظم الدول الأوروبية على الاستجابة للمنطق الروسي في هذا المجال وبالتالي وجد هؤلاء أنفسهم في ورطة على الأقل على صعيد المستقبل القريب في إيجاد بدائل. ثانيا: على الصعيد العسكري من الواضح أن كل الأسلحة التي قدمت إلى أوكرانيا بما في ذلك منظومة الدفاع الجوي والصواريخ والطائرات والطائرات المسيرة والذخائر التي تقدر قيمتها بحوالي 50 مليار دولار من الواضح أنها لم تفد في شيء ولم تؤثر في العملية العسكرية الروسية التي تمضي كما هو واضح في طريقها بلا هوادة وربما التأثير الوحيد كان في إلحاق بعض الأضرار في القوة العسكرية المهاجمة نتيجة استخدام أسلحة حديثة لكنها لم تتسبب في إيقاف الهجوم العسكري مما يعني أن الغرب قد فشل في الحاق الدمار الشامل بالاقتصاد الروسي مثلما كان يتوقع وفي المقابل دفعت الدول الغربية ثمنا باهظا بسبب العقوبات أدت إلى زيادة الأسعار وارتفاع نسبة التضخم إلى حوالي 8% وشح المواد الغذائية وغير ذلك من الكوارث التي تتصاعد يوما بعد يوم وبدأت تظهر في التذمر الشعبي والمظاهرات في كل من اسبانيا وإيطاليا وغيرهما كما أنها خسرت على المستوى العسكري وإن أسلحتها التي وردتها إلى الجيش الأوكراني ضاعت هباء منثورا وتم تدمير أغلبها حتى قبل أن تدخل أرض المعركة مما يعني خسارة مضاعفة ودون أيما فائدة تذكر. من خلال كل ما تقدم من الطبيعي أن يبدأ هذا التحالف الغربي في التفكك كما جاء في صحيفة «الاندبندنت» البريطانية التي عنونت تقريرها «أوكرانيا لا يمكن أن تنتصر وعلى الغرب أن يكون واقعيا»، والحقيقة أن هذا التقرير الذي نشرت جزءا منه صحيفة «أخبار الخليج» مؤخرا يؤكد على حقيقتين أساسيتين كنا نتحدث عنهما في أكثر من مقال سابق. الأولى: هو أنه لا أمل لأوكرانيا في تحقيق أي انتصار عسكري في مواجهة القوة الروسية الجبارة. الثانية: إن الحل الوحيد لإيقاف هذه الحرب والحد من الخسائر للجميع هو الجلوس إلى طاولة المفاوضات لإيجاد حل توافقي يراعي مصالح الجميع ويحقن دماء الشعبين الروسي والأوكراني خاصة إنهما شعبان شقيقان جاران. إن هذا التصدع في الجبهة الغربية قد نجم عن الخلافات حول عدد من القضايا الرئيسية مثل موضوع الغاز والنفط وموضوع العقوبات المالية والدفع بالروبل وأزمة الحبوب والغذاء وأزمة الموانئ الأوكرانية وتعطيلها مما تسبب في إيقاف عشرات سفن الشحن التي تنقل الغذاء للعالم. في الخلاصة كان من الواضح أن الوحدة التي رأيناها في بداية المعركة بين الناتو ودول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية قد تعرضت مؤخرا إلى ضغوط كبيرة واختلافات في وجهات النظر سوف تتوسع من يوم إلى آخر مما سيؤدي في نهاية المطاف إلى بداية الاعتماد على الحلول التفاوضية ولكن بعد خراب البصرة كما يقال.
مشاركة :