فيلم "واحد تاني" يطرح فكرة بارزة في بنائه، وقصة ترفيهية، وكوميديا أثارت عليه عاصفة من الانتقاد، ومغزى وهدفًا يريد الوصول إليه وتصديره إلى المُشاهدين. وبهذه المكونات جميعًا حاول أحمد حلمي أن يعيد انتشال نفسه من الهوَّة السحيقة التي دخلها منذ حوالي عقد من الزمن؛ ما بين اختفاء وأعمال أكثر ضررًا من الاختفاء على فكرة "النجم الجماهيري" الذي يستطيع أن يجذب الجمهور. فهل نجح؟ قصة فيلم واحد تاني الفيلم الذي ينسب إلى مؤلفه الموهوب هيثم دبور، ومخرجه الموهوب محمد شاكر خضير يتناول قصة مصطفى (أحمد حلمي) الذي يعمل في أحد السجون العامة موظفًا في المتابعة الاجتماعية للمساجين؛ لمعرفة مدى تأهيلهم للخروج للمجتمع ثانيةً. تمر حياة مصطفى بطيئة خالية من الروح؛ وكأنها زهرة ذابلة. وبعد تلقِّيه دعوةً من فيروز (روبي) صديقة الجامعة القديمة لحفل لمّ شمل الزملاء القدامى -الذي اكتشف فيه أنه أقل الأصدقاء إنجازًا- يلتقي أخا فيروز الصغير جاسر (أحمد مالك) الذي كان يحبه بشدة. يجد جاسر أن مصطفى قد تغير وصار نمطيًّا منطفئًا، كما يجد مصطفى أن جاسر ممتلئ طاقةً وحيويةً. يكشف جاسر لمصطفى أن السبب في توهُّجه هو تحميلة أو لبوسة اخترعها أحد الأطباء تعيد للإنسان شغفه الذي فقده مع مرور الأيام. ويقترح عليه أن يفعل مثله؛ ليعود إلى شخصية "إكس" القديم (هكذا كانوا يسمونه وهو شاب). وبالفعل يمتثل مصطفى لنصيحة جاسر؛ ويذهب ليستعيد شخصيته القديمة من خلال لبوسة الشغف. لكنَّ الأمور لا تسير كما خُطط لها؛ فيتردَّد شخص البطل بين مصطفى وإكس بالتبادل يومًا بعد يوم. فهل سيستمر الوضع على ما هو عليه أم سيقضي أحدهما على الآخر؟ هذا ما تعرضه أحداث الفيلم. فكرة فيلم واحد تاني فكرة الفيلم قائمة على افتقاد شعور الشغف بالأشياء؛ حينما يتيه المرء عن شغفه في متاهات الحياة اليومية كشخصية البطل مصطفى، الذي يعيش حياة رتيبة مفتقدًا للشغف.ركَّز المؤلفت شخيصه لهذه الحالة بافتقاد التعلُّق بالأمور على الوجه الذي كان الإنسان يتعلَّق بها فيه وهو في نهاية الصبا إلى بداية الشباب، أو كما عبَّر الفيلم عنه -وما سيأتي كلمات أبطاله-بالشغف "أيام الجامعة"؛ التي فيها كنت تقدر على قضاء أيام يقظًا، وكنت تفضِّل فيها صُحبة أصدقائك على صحبة أبويك. ومن الممكن أن نصوغ التصوُّربأنها المرحلة التي تجهد نفسك في سبيل ما تريده مهما كان تافهًا في عيون الآخرين، لمجرد أنك تراه الآن قيِّمًا غير معتبر لقضيَّة "قيمة الأشياء" أو الصورة الكبرى. ولا بد من التذكير هنا أنَّ المؤلف انسحب بدوره إلى شعور الشغف وحده؛ دون الالتفات إلى المنظور الأكبر للأمور. ونظرًا لأن المؤلف نجح بالفعل في أن يقيم الفيلم على فكرته؛ فهل كان مصيبًا؟ الفكرة التي قدَّمها الفيلم مُتصوِّرًا "أنها البحث عن الشغف"، لم تكن كذلك. فالفيلم تصوَّرَ -وصوَّرَ للآخرين- أنَّ الشغف هو حال مرتبطة بعُمر معين، وبأمور معينة. وأنَّ الإنسان مع تقدُّمه في العُمر يفقد هذا الشغف؛ ليصير إنسانًا عاطلًا عن كل رغبة وتعلُّق، كما هو بطل الفيلم مصطفى. الذي يعيش حياة يعيشها كل العرب -بل كل بني البشر- في مرحلته العمرية (العيش بتوازن، الاهتمام بشئون العمل، الانغماس مع الواقع ومشكلاته الاعتيادية). إنَّ خطأ الفيلم الأكبر جاء من هذا التصوُّر المَعطُوب الذي يتعامى عن الحاليّ والآنيّ؛ آملًا في شيء غيره لن يأتي، متغافلًا عن حقيقة الإنسان الذي هو كيان تتحوَّل عليه الأحوال، ولا يخلو أبدًا منها. تلك الأحوال التي منها السرور والحزن والحذر والترقُّب والشغف والتعلُّق. لا ينفكّ الإنسان عن هذه الأحوال حتى موته. وهنا يتحوَّل سؤالنا من: هل يفقد الإنسان شغفه؟ إلى: بأي شيء يتعلَّق ويشغف؟ هذا هو السؤال الصحيح الذي يتبدَّل كلَّما مرّ الإنسان بمرحلة عُمريَّة أخرى. الإنسان قد أودع الله فيه الشغف، وكل ما في الأمر أنَّ شغفه وتعلُّقه بالأشياء يتغير بمرور مراحله. ومن التعامي عن حقيقة الأشياء أنْ نترك ذواتنا الحالية وما نحن عليه؛ آملين فيما كانت عليه ذواتنا في سنين مضت، معتقدين بذلك أننا سنكون على خير حال. وساعتها لا نتمتع بوجودنا الحاليّ، وبالقطع لن نصل إلى وجود كنا عليه سابقًا. وكل هذه الفكرة انبَنَتْ أصلًا على أن الماضي أفضل؛ وليس هذا صحيحًا، بل هي مراحل كلها فيها خير وفيها شرّ، فيها صواب ممكن أن ندركه، وفيها خطأ وسراب ممكن أن نضيع عمرنا فيه. بناء فيلم واحد تاني استطاع المؤلف أن يقدم فيلمًا ناجحًا بنائيًّا. يمكن تقسيم الفيلم إلى أربعة فصول: فصل تمهيدي نتعرف فيه على سياق الأحداث، وفصل ثانٍ يتعلق بالحبكة وتنامي التناقض بين الشخصيتين ومحبة إكس لفيرزو، وفصل ثالث يدور على التنافر بين الشخصيتين، ورغبة كل منهما في القضاء على الآخر، مع بعض عقبات الطريق وتأثيرها (مثل الخط الدراميّ المتعلق بعمرو عبد الجليل وشخصيتيه)، وفصل أخير يدور حول تواؤُم الشخصيتين، وتصالحهما للعيش سويًّا. الفيلم من تصنيف كوميديا دراما، ويشبه إلى حد بعيد نمطًا من أنماط أفلام الكوميديا الأميركية. وهنا لن أناقش فكرة اقتباس الفيلم؛ فهو أمر مفروغ منه، وهو أمر لا يهم كثيرًا في مناقشة جدية للفيلم.وعليه أتتْ طريقة الدخول في الحبكة التي كانت سريعة جدًا، لكنها تتبع النمط الذي اقتبس الفيلم منه، من الأفلام الأمريكية. والمؤلف أقام بناءه الفنيّ على أمور. هي: أنه خلق شخصيتين متناقضتين؛ وهذا يخلق تنويعًا دراميًّا ولبنة كوميدية خصيبة يستطيع بها توليد الكوميديا. وأنه جعل الحبكة تقوم على عنصر التغيير، وأنه ركَّز على البطل بشخصيتيه مع تهميش بقية أطراف الدراما، حتى مَن يمكن إطلاق صفة "بطولة الفيلم النسائية" عليها. أن تضحك مهما كان الثمن بنى المؤلف عمله على هذا المبدأ؛ حيث إرادة إضحاك المشاهد حتى إن كان ثمن هذا الضحك هو اللعب على أوتار أخلاقية. وهنا نقف وقفة حتى لا نظلم أحدًا، ولقد شاهدت الفيلم مرتينِ لأحسم هذا الجدل العارم الذي أثاره الفيلم على بطله. وللأمانة وجدت عند المشاهدة الثانية للفيلم أن الجمهور قد وقع تحت سطوة الصدمة الأولى، وأن كثيرًا من مشاهد الضحك لا تنتمي لمحور الإشكال الذي سأعرضه الآن. الكوميديا في الفيلم تقوم على عمادين بارزين: الاختلاف إلى حد التناقض بين شخصيتَيْ البطل، واللبوسة التي تعاطاها في أول الفيلم، ومجموعة من الحوارات التي تدور حولها. الإشكال الأكبر في العماد الآخر، وهو مسألة اللبوسة. ما الذي في الأمر تقنيًّا؟ استخدم المؤلف اللبوسة في الإضحاك بطريقة التورية؛ أيْ أنه في كل المَشاهد المتعلقة بها صرَّح باللبوسة كمعنى قريب، لكنَّ المعنى البعيد هو معنى جنسيّ خالص يرمي إلى العملية الجنسية التي تنتمي إليها تلك الإشارات (الدخول، الخروج، الألم،...). هذا النمط من الكوميديا فنيًّا صحيح لا شيء فيه، بل ناجح حيث من السهل إخراج الضحكات به من الجمهور؛ خاصةً صغار السن والمراهقين. وأؤكد أن المؤلف قد صاغه بمهارة قد تخلو منها الأفلام التي اقتبس عنها. لكنه على الصعيد الأخلاقيّ يعدُّ كارثةً؛ فأنْ تبني ضحكاتك -التي ستضمن نجاحك الماديّ وشباك التذاكر- على جثة الأخلاق شيء كارثي حقًّا. هذا النوع كان موجودًا منذ العقدين الأخيرين بكثرة، ولعلَّنا نرى آثاره الباهرة على وجه الواقع، وما سبَّبه في المجتمع من انتشار رُوح الابتذال وقرب السخف والبذاءة من أفراد المجتمع، ومن طبقاته جميعًا؛ حتى لم يعد شائنًا أن نسمع مثلها في بعض البرامج التلفازية وعلى ألسنة أناس مرموقين. لكنَّ الذي صدم الجمهور حقيقةً هو أن يكون أحمد حلمي صاحب هذه النهج؛ فهو الذي اشتهر وبنى سمعته على الكوميديا البريئة الخالية من أيّ إضرار بالأخلاق كي تبتز الضحك من الجمهور، بل هو بنفسه الذي كرَّس شخصية البطل الطيب البريء الذي يواجه في كل أفلامه المصاعب الحياتية أو الأشرار. وكان دومًا يستطيع أن يصنع تلك الكوميديا المعتمدة على البراءة في مواجهة الأشياء والمواقف. نجاح إخراجي كبير استطاع محمد شاكر خضير أن ينجح على كافة أصعدة إخراجه، بل استطاع أن يدخل عالم الإخراج الكوميديّ؛ حيث الكوميديا تأتي من الإخراج، ليس فقط من التمثيل والنكات -اللذين هما أحد أدوات الإخراج-. اعتمد على أماكن تصوير ملائمة لأغراض كل مشهد، ونفَّذ حركات كاميرا ناجحة ومؤثرة في صناعة بهجة الصورة. ويعيب الفيلم هنا أنه حمل إعلانًا مدفوع الأجر لإحدى شركات التكنولوجيا التي ظهرت في مشاهد عدة،وحاول المخرج أن يقنِّع هذا بالدراما، لكننا في النهاية أمام فيلم وإعلان تجاريّ. هل واحد تاني هو أحمد حلمي نفسه؟ والغريب أننا إذا تأملنا فكرة الفيلم سنجد أنها تنطبق على بطله أحمد حلمي؛ الذي يبدو أنه فقد الشغف حقًا في مرحلته الحالية لإخراج أفلام لائقة به. وها هو يحنُّ إلى الماضي، إلى أحمد حلمي القديم الذي كان يقدم أفلامًا ناجحة جماهيريًّا. وبالفعل قد قدَّم فيلمًا لا بأس به. لكنْ من هنا نسأل: هل في سبيل إخراج فيلم جماهيري قد نتحول إلى "واحد تاني" فعلًا؛ فنصدم الجمهور بوجه آخر وبصورة لم يعهدوها عنَّا؟ هذا اختيار الممثل، وبعض الاختيارات يكون لها نجاح وقتي، لكنها تؤثر بشكل كبير على نجاحنا فيما بعد، وعلى الصورة الذهنية التي رسمها الجمهور لنا على مدار أعوام عقدين كاملين.
مشاركة :