بعد أقل من أربعة أشهر فقط، أفرز الغزو الروسي لأوكرانيا مجموعة من التداعيات الاقتصادية العالمية التي تتراوح بين عدم الاستقرار في سوق الطاقة العالمية، إلى الارتفاع الحاد في أسعار الواردات، بما فيها المعادن والفلزات، حيث ارتفع سعر الألومنيوم، بنسبة تصل إلى 42% في عام 2022 وحده. ومع ذلك، فإن «أزمة الأمن الغذائي»، و«ارتفاع أسعار السلع»، تحظى باهتمام زائد من قبل المراقبين الغربيين، باعتبارها قضية دولية رئيسية، وفي ظل أن روسيا وأوكرانيا يُشار إليهما باسم «سلة خبز العالم»، نظرًا لصادرات الحبوب الهائلة من هما. وفي الواقع، لا يمكن التقليل من التداعيات قصيرة وطويلة المدى للغزو، حيث كان يتم تداول كميات كبيرة من الصادرات الغذائية من أوروبا الشرقية إلى البلدان الأقل نموًا اقتصاديًا في آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط. ومع انقطاع هذه الإمدادات الآن أو توقع تراجعها خلال السنوات القادمة، واحتمال ارتفاع الأسعار، وتزايد انعدام الأمن الغذائي، والجوع، وسوء التغذية، والفقر، فضلاً عن الاضطرابات السياسية المحتملة الناتجة عن النقص؛ حذر الخبراء الغربيون والمنظمات الدولية من كارثة إنسانية وشيكة، كما انتقدوا روسيا لحصارها الموانئ الأوكرانية. ولتقدير مدى تهديد الحرب على الأمن الغذائي العالمي؛ من المهم تحديد حجم المنتجات الغذائية والسلع الذي تُصدر من كلا البلدين. وقبل فبراير 2022، كانت أوكرانيا وروسيا تساهمان بنحو 30% من إمدادات القمح في العالم، حيث تُصدر الأولى وحدها 12% من القمح العالمي، و15% من الذرة، وما يصل إلى نصف زيت عباد الشمس في العالم. ومع هذا الحجم الهائل من الصادرات؛ لاحظت «منظمة الأغذية والزراعة»، «الفاو»، التابعة للأمم المتحدة، أن ما يصل إلى 50 دولة تعتمد على واردات الغذاء من كلا البلدين. علاوة على ذلك، يجب مراعاة الإمدادات الحيوية لبرامج المساعدة الدولية التي ترعاها الدولتان. وأشارت مجلة «الإيكونوميست»، إلى تلقي برنامج الغذاء العالمي، التابع للأمم المتحدة -والذي يعتمد عليه أكثر من 115 مليون شخص- ما يصل إلى نصف إمداداته من القمح من أوكرانيا وحدها. وبصرف النظر عن الأراضي الزراعية الأوكرانية والبنية التحتية التي تعرضت للتدمير أو الضرر خلال الغزو، فإن الحصار الروسي للموانئ الأوكرانية، رأى فيه المحللون الغربيون سببًا حاسمًا لنقص الإمدادات العالمية، وعدم استقرار السوق. وأوضح «مارتن فرير»، في صحيفة «الجارديان»، أن حصار الموانئ الرئيسية، مثل «أوديسا»، و«تشورنومورسك»، يعني أن «الإمداد لا يمكن أن يتم، إلا عبر الطرق البرية المزدحمة ذات الكفاءة الأقل بكثير». كما أوضحت مجلة «الإيكونوميست»، أن 98% من صادرات الحبوب في البلاد عادة ما تمر عبر ميناء أوديسا، أكبر الموانئ الأوكرانية، والذي توقف الآن. وفي الوقت الذي كانت فيه «كييف»، تصدر حوالي 5 ملايين طن من الحبوب شهريًا قبل الغزو، باتت بحسب تصريح وزير زراعتها «ميكولا سولسكي»، تُصدر في أبريل 2022، 1.1 مليون طن فقط. وفي تأكيد على هذا، أضاف «فرير»، أن الحرب في أوكرانيا، والعقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على روسيا عطلت واردات الأسمدة والقمح والسلع الأخرى من كلا البلدين؛ ومن ثم «رفع أسعار الغذاء والوقود، لاسيما في الدول النامية». وتُعد العقوبات الاقتصادية ضد «موسكو» من الاعتبارات المهمة في هذا الصدد. وفيما يتعلق بمسألة أسعار الأسمدة، أشارت مجلة «الإيكونوميست»، إلى أن «من بين الأنواع الثلاثة الرئيسية للأسمدة الصناعية»، تعد روسيا، «أكبر مُصَدِر للأسمدة القائمة على «النيتروجين»، وثاني أكبر مُصَدِر للأسمدة «البوتاسية»، والثالثة في إنتاج الأسمدة «الفوسفاتية». كما لحق الضرر الاقتصادي بالزراعة الروسية أيضًا. وفي عام 2021 فقط، استوردت موسكو ما قيمته 870 مليون دولار من المبيدات، و410 ملايين دولار من البذور، معظمها قادمة من الاتحاد الأوروبي، لكن في ظل العقوبات الاقتصادية ضدها الآن قطعت معظم الشركات الغربية علاقاتها مع شركائها الروس. وبالإضافة إلى الأضرار المادية والاقتصادية التي لحقت بكلا الدولتين؛ أشار المراقبون إلى تفاقم أزمة الغذاء على الصعيد العالمي. وفي مايو 2022، حذر «أنطونيو غوتيريش»، الأمين العام للأمم المتحدة، من أن نقص الحبوب والأسمدة، يهدد «بدفع عشرات الملايين من الناس إلى مرحلة انعدام الأمن الغذائي»، وأن «سوء التغذية والجوع الجماعي والمجاعة»، سببها بشكل غير مباشر الغزو الروسي، «وأن الأزمة من الممكن أن تستمر لسنوات». ومن المهم أيضًا التأكيد على حدوث نقص في الإمدادات وارتفاع الأسعار جراء الأحداث الأخيرة، على خلفية جائحة الفيروس التاجي، الذي أثر بشكل كبير على الأسواق العالمية. ووفقًا لـ«برنامج الغذاء العالمي»، يعيش ما يصل إلى 193 مليون شخص على مستوى العالم في خطر مباشر يتمثل في الحرمان من الوصول إلى الغذاء، مع تدهور ظروف الإمداد، بسبب الجائحة حتى قبل الغزو الروسي لأوكرانيا. وفي هذا الصدد، حذر «ديفيد بيزلي»، رئيس برنامج الغذاء العالمي، من أنه ما لم يتم «معالجة هذا الوضع خلال الأشهر القليلة المقبلة، سنشهد مجاعة، وسنرى زعزعة لاستقرار الدول، بالإضافة إلى الهجرة الجماعية». وكتب «بول إيدون»، أن الشرق الأوسط «معرض بشكل خاص للتأثيرات على أسعار المواد الغذائية العالمية والإمدادات، نتيجة الغزو». وأشارت «ناتاشا توراك»، من شبكة «سي إن بي سي»، إلى أنه «قبل الحرب، تم شحن أكثر من 95% من إجمالي صادرات أوكرانيا من الحبوب والقمح والذرة عبر البحر الأسود، وذهب نصف هذه الصادرات إلى دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والآن أضحى هذا المنفذ الحيوي مُغلقا». وفي تفصيل لذلك، أشار «إيدون»، إلى أن 60% من الحبوب المصرية مستوردة، و80% من هذه الكمية تأتي من روسيا وأوكرانيا. ومع تأكيده على أن وقوع أزمة غذاء للقاهرة ليس أمرًا متوقعا؛ حيث إن لديها احتياطيات استراتيجية تكفي لمدة عام تقريبًا، وبالتالي «لديها الوقت لإيجاد بدائل أخرى؛ وصف في المقابل، الوضع الحالي للأمن الغذائي في «سوريا»، و«لبنان»، بأنه «مروع»، حيث إن 90% من واردات القمح وزيت الطعام لكليهما تأتي من كلا البلدين». وأشارت «توراك»، إلى أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية والسلع أدى إلى «زيادة التضخم»، عام 2021، حيث بلغ مستوى التضخم بالفعل 14.8% في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا قبل أن تبدأ الحرب بأوكرانيا، فيما ارتفعت أسعار المواد الغذائية بالمنطقة بنسبة 34% في عام 2022. وعلى عكس البلدان الأقل استقرارًا اقتصاديًا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؛ كتبت «نادين إبراهيم» في شبكة «سي إن إن»، أن «الدول الخليجية»، التي تستورد 85% من إمداداتها الغذائية، واجهت أزمة الغذاء الراهنة، وهي على استعداد تام، حيث إن لديها «استراتيجية طويلة الأمد للأمن الغذائي، وتوفير الموارد اللازمة لتنفيذها». ومع ذلك، أشار «توفيق رحيم»، من مركز «نيو أمريكان فاونديشن»، إلى أن «المنطقة قد تتعرض لصدمة اقتصادية في الصيف الحالي». وأشار «فريدريك ويري»، من «مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي»، إلى أنه جنبًا إلى جنب مع تداعيات الوباء، وتغير المناخ، واحتمالات نهاية حقبة النفط، والإحباط المتزايد من غياب الفرص الاقتصادية، هناك تزايد لانعدام الأمن الغذائي الناتج عن الغزو الروسي، من المحتمل أن يتسبب في اضطرابات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في الأشهر المقبلة. وبشكل خاص، تم تسليط الضوء على البلدان الإفريقية، باعتبارها عرضة لارتفاع الأسعار ونقص الغذاء. وأشارت مجلة «الإيكونوميست»، إلى إنفاق ما يصل إلى 40% من متوسط دخل الأسرة على الغذاء في الدول الإفريقية جنوب الصحراء الكبرى. وأوضح «كيستر كلوميجاه» في صحيفة «مودرن دبلوماسي»، أن الدول الإفريقية أصبحت «ضحية للأزمة الروسية الأوكرانية»؛ لكن موسكو تجاهلت ذلك، وبدلاً من ذلك، «ألقت باللوم على العقوبات الأوروبية في خلق الوضع غير المستقر الذي اجتاح إفريقيا». وعلى نطاق واسع، تم انتقاد روسيا لتسببها في أزمة الأمن الغذائي الأخيرة من خلال حصار الموانئ الأوكرانية، وابتزاز بقية دول العالم. وأوضح «جيمس وارينجتون»، و«هانا بولاند»، في صحيفة «ذي تليجراف»، أن «أكثر من 20 مليون طن من الحبوب، عالقة حاليًا في الموانئ الأوكرانية. ورغم ادعاءات موسكو بأن هذه الموانئ لا يمكن فتحها حتى تتم إزالة الألغام البحرية منها، فإن المسؤولين الغربيين غير مقتنعين بهذا الأمر». واتهم وزير الخارجية الأمريكي، «أنتوني بلينكين»، «بوتين» بـ«ابتزاز»، دول العالم من خلال استهداف الإمدادات الغذائية الموجهة للتصدير. وفي أبريل 2022، اتهم «جوزيب بوريل»، رئيس السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، «موسكو»، بـ«تفجير وتدمير مخازن القمح»، والعمل على «تجويع العالم». وعلى الرغم من ذلك، تم تقديم بعض المبادرات لدعم الإمدادات الغذائية العالمية من خلال الحوافز الاقتصادية. وفي مايو 2022، زاد «البنك الدولي»، تمويله لتعزيز إنتاج الغذاء والأسمدة على مستوى العالم، بما في ذلك 18.7 مليار دولار لمشروعات تخفيف تدهور «قضايا الأمن الغذائي والتغذوي» في إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط وشرق أوروبا. وحث «البنك الدولي»، على «أن تبذل الدول جهودًا متضافرة لزيادة إمدادات الطاقة والأسمدة»، و«إزالة السياسات التي تمنع الصادرات والواردات»، أو «تلك التي تشجع على التخزين غير الضروري لها». ومع ذلك، حذر «صندوق النقد الدولي»، من أن انعدام الأمن في الغذاء والسلع والطاقة، يهدد بتداعيات «كارثية» على الصعيد العالمي. ومن جانبه، أشار «غوتيريش»، إلى أن «الآثار الأمنية والاقتصادية والمالية المعقدة لأزمة الغذاء، تتطلب حسن النوايا من جميع الأطراف للتوصل إلى اتفاق شامل، بشأن صادرات القمح والحبوب الأوكرانية إلى بقية العالم»؛ لكنه أكد أيضًا أنه «لا يوجد حل فعال لأزمة الغذاء دون إعادة دمج الإنتاج الغذائي الأوكراني في الأسواق العالمية»، بالإضافة إلى «ضرورة أن تسمح روسيا بالتصدير الآمن للحبوب المخزنة في الموانئ الأوكرانية». وفي إدراك لأهمية هذه القضية، يجب الإشارة إلى أن بعض البلدان قد اختارت إعطاء الأولوية لأمنها الغذائي. وفي 13 مايو 2022، فرضت «الهند»، حظرًا على صادرات القمح، مع استثناءات طفيفة فقط. ومع أن «نيودلهي»، ليست مُصدرًا رئيسيًا للقمح حاليًا، حيث إن صادراتها منه تمثل أقل من 1% من التجارة العالمية؛ إلا ان شبكة «بي بي سي نيوز»، أشارت إلى أنها تعتبر «ثاني أكبر منتج للقمح في العالم»، وبالتالي، فهي مرشح محتمل لتحل محل الصادرات الأوكرانية والروسية إلى آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا، لاسيما مع ارتفاع أسعار القمح العالمية، بنسبة 6% تقريبًا في أعقاب إعلانها الحظر. كما ذكرت مجلة «الإيكونوميست»، أن 26 دولة تقوم الآن بتنفيذ قيود صارمة على صادرات السلع الغذائية، تصل لـ«الحظر التام» في معظم الحالات، الأمر الذي شجبه وزير الأغذية والزراعة الألماني، «جيم أوزدمير»، بقوله: «إذا بدأ الجميع في فرض قيود على الصادرات؛ فإن هذا لن يؤدي إلا إلى تفاقم الأزمة». على العموم، من الواضح أنه كلما استمرت أزمة انعدام الأمن الغذائي الناتجة عن الغزو الروسي، ستزداد عواقبها الإقليمية والعالمية سوءًا، خاصة في ضوء إشارة مجلة «الإيكونوميست»، أنه «لا توجد دولة محصنة ضد آثار هذه الأزمة». وعلى الرغم من الحاجة الملحة لمعالجة هذا الأمر؛ فإن الجهود الدبلوماسية التي تقودها «الأمم المتحدة»، لتسهيل فتح الموانئ الأوكرانية، لا يزال يقوضها الرفض الروسي واللوم الغربي، وأفضل مثال على ذلك مؤخرًا اتهام «تشارلز ميشيل»، رئيس المجلس الأوروبي، «موسكو»، خلال اجتماع مجلس الأمن الدولي، بأنها «مسؤولة وحدها عن هذه الأزمة»، وما تبعه من انسحاب سفير روسيا لدى الأمم المتحدة، «فاسيلي نيبينزيا»، ردًا على ذلك، مخلفًا بذلك فشلاً في إيجاد أي حل إيجابي لهذه الأزمة العالمية المتفاقمة.
مشاركة :