تصوَّر كثيرون أنه مع سرعة التطورات الاقتصادية والاجتماعية منذ العقدين الأخيرين من القرن العشرين، مع القفزات الهائلة في إنتاج المعرفة وترجمتها في تكنولوجيا المعلوماتية والاتصالات، أن الماضي لن يعود له تأثير في حركة المجتمعات في الحاضر، وأن التاريخ سيفقد أهميته في تشكيل مستقبل الأمم. ومع ذلك يضرب الصراع الجاري في أوكرانيا والمواقف الحادة التي اتخذتها منه دول حلف الأطلنطي، وفي مقدمتها كل من الولايات المتحدة وبريطانيا، الدليل على خطأ مثل هذا الاعتقاد. فلا يمكن فهم هذه المواقف إلا بالعودة إلى الذاكرة التاريخية لهذه المجتمعات، ما يقفز منها إلى أذهان قادتها ومواطنيها، وكذلك ما يغفلون عنه. فذاكرة البشر جميعا عن الماضي هي ذاكرة انتقائية، يتخير وعيهم منها بعض الأحداث، وينحي جانبا آخر، ومع ذلك ففهم سلوكهم يقتضي وضع كل ما جرى في الماضي في حسبان المراقب الدؤوب، فربما يكون فيما غفلوا عنه أفضل مرشد لهدايتهم إلى الطريق الصحيح في التعامل مع أزماتهم الراهنة. الذاكرة الغربية لا شك مثلا أن الدول الغربية تتذكر جيدا ما جرى في السنوات القليلة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، وكيف تساهلت في التعامل مع خطر النزعات التوسعية لألمانيا النازية، وكيف تصور نيفين تشامبرلين رئيس الوزراء البريطاني في ذلك الوقت أن سكوته عن ضم هتلر لكل من النمسا وبعد ذلك إقليم السوديت في تشيكوسلوفاكيا سوف يشبع طموحاته، وأنه سيكتفي بذلك، أو أنه سيوجه قواته إلى شرق القارة الأوروبية ويلتهم الأقاليم التي سكنها السلافيون وفي مقدمتهم الروس، تلك الأقاليم التي كان هتلر يعتبرها المجال الحيوي لألمانيا. وثبت خطأ هذه التصورات، عندما بدأت القوات الألمانية زحفها نحو إقليم دانزج ذي الأغلبية المتحدثة بالألمانية والذي كان جزءا حينئذ من بولندا، وكان بداية الحرب العالمية الثانية، فسقطت حكومة تشامبرلين في بريطانيا، وحل محله وانستون تشرشل الذي لم يكن لديه أي وهم بالنسبة إلى حدود طموحات القائد الألماني. ولكن يسقط من الذاكرة الغربية أن ما فعله هتلر هو رد فعل لمشاعر الذل والإهانة التي شعر بها قسم كبير من الألمان إزاء تسويات فرساي في 1919 التي انتهت بها الحرب العالمية الأولى، وأن اقتطاع مساحات واسعة من أراضي الإمبراطورية الألمانية بما في ذلك ليس فقط إقليما السوديت ودانزج ولكن كذلك إقليما الألزاس واللورين اللذان أصبحا من نصيب فرنسا، مثلا 13% من مساحة ألمانيا، فضلا عن التعويضات وإلحاق ذنب اشتعال الحرب بها. ربما ألهب هتلر مشاعر الألمان بالحديث عن هذه التسويات المهينة لهم، ولكن الرغبة في تصحيح هذه الأوضاع من وجهة نظره كانت قد عبرت عن نفسها مبكرا في محاولة الانقلاب الفاشلة التي قام بها وصدر لها واحد من قادة الإمبراطورية الألمانية في تلك الحرب، وهو الجنرال إريك دودندورف الذي كان الرئيس الفخري لذلك الحدث في ميونيخ في أكتوبر 1922 والذي عرف في التاريخ بانقلاب حانة البيرة. سقطت من الذاكرة الغربية آثار هذه التسوية في نمو النزعة الانتقامية لدى قطاع مهم من النخبة والشعب في ألمانيا. ولذلك تعامل الغرب مع سقوط الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو بنفس الاستهانة. طبعا لم يكن من الواقعي أن يتصور القادة الروس أن الولايات المتحدة ستفي بالوعد الذي قطعه في موسكو في فبراير 1990 جيمس بيكر ــوزير الخارجية الأمريكي ــ لميخائيل جورباتشوف ــ آخر رئيس للاتحاد السوفيتي ــ بأن حلف الأطلنطي لن ينتهز فرصة سقوط حائط برلين وتوحيد ألمانيا لمد نفوذه إلى دول حلف وارسو سابقا في شرق أوروبا والتي يقع بعضها على حدود روسيا ذاتها. لم يتصور قادة الأطلنطي وخصوصا في الولايات المتحدة وبريطانيا أن توسع حلف الأطلنطي على هذا النحو والذي ضم كل دول حلف وارسو السابقة فضلا عن ثلاث جمهوريات في إقليم البلطيق كانت ضمن جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، بل وأن عدم رفضها علنا حتى الآن من حيث المبدأ انضمام أوكرانيا عضوا جديدا في الحلف سيثير غضب روسيا وخصوصا وهي تقع على حدود روسيا وكانت سابقا إحدى الجمهوريات السوفيتية، وتربطها بالروس روابط تاريخية وثقافية مهمة لكون شعبها مع الروس من ذوى الأصول السلافية التي كانت أساس تكوين روسيا كدولة منذ عهود طويلة، بل ويمكن أن يكون سببا في صراع جديد معها. ذاكرة الرئيس بوتين التعامل الانتقائي مع التاريخ هو سمة لرؤية الرئيس بوتين. هو يتذكر جيدا الإمبراطورية القيصرية والتي ضمت شعوبا كثيرة في أوروبا وآسيا، وقد خرجت كلها عن الاتحاد السوفيتي في 1991 وأصبحت ــ مثل أوكرانياــ دولا مستقلة، ويعتبر بوتين سقوط الاتحاد السوفيتي على هذا النحو أخطر الأحداث الجيو سياسية في القرن العشرين. ويشير المراقبون أنه يحلم باستعادة النفوذ الروسي على كل تلك الأقاليم، ليس فقط ما كان منها من جمهوريات الاتحاد السوفيتي، بل يطمع، وهذا هو المطلب الروسي الرسمي، في انسحاب حلف الأطلنطي من كل الدول التي كانت سابقا من أعضاء حلف وارسو وبعضها على حدود روسيا، وشكلت منطقة نفوذ للاتحاد السوفيتي. بل هو لا يعترف بأن بعض البشر الذين يعيشون في هذه الدول يستحقون أن يكونوا دولا. أوكرانيا في رأيه لم تكن دولة قبل الثورة البلشفية التي أتت بالشيوعيين إلى حكم أقاليم روسيا القيصرية سابقا، وإنما كانت منحة من لينين قائد تلك الثورة، وعلى الرغم من أن بوتين كان عضوا فاعلا في جهاز المخابرات السوفيتي في ظل الحكم الشيوعي، إلا أنه يرى أن استئصال الشيوعية يقتضى أيضا إلغاء تراثها، ومنه وجود بولندا كدولة. يغفل الرئيس الروسي أن السبب الرئيسي المباشر لسقوط الاتحاد السوفيتي كان هو الفشل في تحويل ما قام به لينين وما نص عليه الدستور السوفيتي في 1936 من منح الاستقلال الذاتي للقوميات المختلفة التي تشكل منها الاتحاد السوفيتي السابق إلى واقع. من الناحية النظرية المحضة اعترف الاتحاد السوفيتي بالتعدد الثقافي داخل حدوده وأضفى عليه طابعا سياسيا بأن جعل الحكم الذاتي حقا لكل القوميات أيا كان حجمها؛ تتمتع باستخدام لغتها والتعبير عن ثقافتها. بل اعترف بأن للقوميات الكبرى فيه حق المطالبة بتقرير المصير، ولذلك كان اسمه الرسمي هو اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية، وكانت القوميات الكبرى فيه هي وحداته الأساسية. فهذه القوميات الخمس عشرة هي الجمهوريات الاتحادية التي تكون منها، بل إن اثنتين منها كانتا أعضاء في الأمم المتحدة وهي كل من أوكرانيا وبيلا روس اللتين احتفظتا بتمثيل مستقل إلى جانب الاتحاد السوفيتي ذاته، ولذلك كان للاتحاد السوفيتي مع هاتين الجمهوريتين ثلاثة أصوات بثلاثة مقاعد في الجمعية العامة للأمم المتحدة. وكان رئيس كل من الجمهوريات الخمس عشرة ينتمي إلى القومية السائدة فيها، وكانت كل من هذه الجمهوريات تستخدم لغتها القومية إلى جانب اللغة الروسية التي كانت رابطا مشتركا في التواصل بينها. وفضلا على ذلك فبعض أبناء هذه الجمهوريات وصل إلى أن يكون أقوى شخصية في الاتحاد السوفيتي؛ فستالين كان من جورجيا، وخروشوف الذي تلاه أمينا عاما للحزب الشيوعي السوفيتي هو أصلا فلاح من أوكرانيا. بل إن الحق في الحكم الذاتي امتد إلى داخل الجمهوريات الاتحادية، فعندما تتكون بعضها من قوميات أصغر يصبح لهذه القوميات أن تتمتع بوضع الجمهوريات ذات الحكم الذاتي، ومن بين الجمهوريات العشرين في هذا الوضع، كانت ست عشرة منها تقع في جمهورية روسيا الاتحادية ذاتها، واثنتان في جورجيا، وواحدة في كل من أذربيجان وأوزبكستان، وحتى في حالة وجود قوميات أصغر فمن حقها أن يكون لها إقليم مستقل، وكان هناك ثمانية من هذه الأقاليم ذات الحكم الذاتي وتسمى أوبلاست في جمهورية روسيا الاتحادية، وكان منها إقليم مستقل لليهود عرف باسم يفريسكايا أو بيروبيدجان. ولكن كان يحد من هذا الحكم الذاتي أن كل هذه الجمهوريات يحكمها حزب واحد هو الحزب الشيوعي السوفيتي، ولها جميعها نفس الجيش، وتخضع لنظام قضائي مركزي، كما أن جهاز التخطيط المركزي (جوسبلان) يضع الخطة لها كلها، ميزانية الاتحاد السوفيتي كانت واحدة. وفضلا على ذلك فإن القائد الثاني في كل جمهورية ينتمي إلى قومية غير القومية ذات الأغلبية، ولجأت الحكومة الاتحادية في موسكو إلى تشجيع انتقال السكان، قهرا في بعض الأحيان، وتسهيلا للتصنيع من ناحية ثانية، ومن ثم أصبح أغلبية السكان في بعض مدن الجمهوريات الأخرى من غير قوميتها، وكان ذلك الوضع صارخا في جمهوريات البلطيق صغيرة الحجم، فكانت نسبة كبيرة من سكان مدنها من الروس تحديدا، وهو ما ولد مشاعر ضغينة بين مواطنيها الأصليين. وعندما أتاحت السياسات الإصلاحية المعروفة باسم سياسات إعادة البناء تحت حكم جورباتشوف، الذي تولى منصب الأمين العام للحزب الشيوعي السوفيتي ثم رئيس الاتحاد السوفيتي من 1985ــ1991، قدرا من حرية التعبير ثم التنافس في الانتخابات، انتهز قادة بعض هذه الجمهوريات الفرصة للمطالبة بالاستقلال عن الاتحاد السوفيتي، وكانت البداية هي في جمهوريات البلطيق الثلاث وهي إستونيا ولاتفيا وليتوانيا في أغسطس 1991، وأعقبها كل رؤساء ما بقى من جمهوريات الاتحاد باستثناء جورجيا بإعلان خروجهم عنه في 19 ديسمبر 1991، ما أدى إلى انتهائه رسميا بعد ذلك بأسبوع. صحيح أن سقوط الاتحاد السوفيتي لم يكن نتيجة ثورة شعبية، ولا حتى رغبة من سكان معظم هذه الجمهوريات في فك عرى الرابطة الاتحادية، ولكن من المؤكد أن قادة الجمهوريات السوفيتية استغلوا رغبة المواطنين في مزيد من التحرر من سيطرة موسكو في الدعوة إلى الاستقلال عن الاتحاد. فهل يتصور الرئيس بوتين أن مثل هذه المشاعر القومية ستخمد في ظل فرض السيطرة الروسية بقوة السلاح على جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، وفي مقدمتها جورجيا ثم أوكرانيا؟ وهل يرضى مواطنو أوكرانيا أن يوصفوا بأن ليس لهم الحق في الاستقلال عن روسيا؟ هذه الاعتبارات يبدو أنها سقطت من الذاكرة الانتقائية للرئيس الروسي. ما الذي تحتفظ به ذاكرة دول الجنوب؟ إذا كانت الذاكرة الانتقائية لدول حلف الأطلنطي قد أسقطت أثر التسويات الدولية بعد هزيمة خصومها في توليد النزعات الانتقامية في نفوس المهزومين ما كان سببا في توتر بين الفريقين انتهى بحرب مدمرة عانى العالم كله منها، وإذا كانت الذاكرة الانتقائية للرئيس الروسي جعلته يغفل عن أن المشاعر القومية كانت وراء انهيار الاتحاد السوفيتي الذي اعتبره أكبر كارثة جيو سياسية في القرن العشرين، ويتصور أن السلام على حدود روسيا يمكن أن يتحقق بتجاهل المشاعر القومية لمواطني الدول التي يسعى إلى مد السيطرة الروسية عليها، فماذا يجب أن يظل حيا في ذاكرة شعوب الجنوب؟ التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة كشف أن الدول الكبرى في جنوب العالم ومعها الصين قد أدركت أن المقاطعة الاقتصادية للاتحاد الروسي ليست في مصلحتها، وأن الأفضل لها، حتى وهي لا توافق على الحرب التي تشنها روسيا على أوكرانيا، أن تنأى بنفسها عن هذا الصراع، وأن تلتزم الحياد فيه. هذه الدول ومعها الصين تمثل أغلبية سكان العالم، فمنها الهند وباكستان وبنجلادش وإندونيسيا وتركيا في آسيا، والبرازيل والمكسيك والأرجنتين في أمريكا اللاتينية، ومصر في الوطن العربي ومعها السعودية والإمارات. موقف الحياد الإيجابي هو الذي يجب أن يعود إلى ذاكرة دول الجنوب، وهو الذي يمكنها من أن تصبح طرفا فاعلا في النظام الدولي متعدد الأقطاب الذي تشكل بالفعل. { أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
مشاركة :