تدشين صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي «رعاه الله»، لـ«مكتبة محمد بن راشد» وافتتاحها في منطقة «الجداف» بمدينة دبي، يُعد فُرصة استثنائية لإثراء الجوهر الأساسي من حضور المكتبات العامة في دولة الإمارات، وتفعيل دورها المجتمعي والثقافي والاجتماعي والتنموي، إلى جانب كونها منصة معرفية للإبداع الشبابي في المنطقة والعالم، من خلال إتاحة المكتبة لكافة الإمكانيات والتقنيات التكنولوجية، لإحداث قفزة معرفية، فيما يتعلق بالإنتاجات البحثية والعلمية، وصولاً إلى تعزيز الشراكات مع كبرى المكتبات الوطنية في العالم، الداعمة لمسألة ترسيخ المرجعيات التاريخية، وتأصيل مناهج الكتابة والتوثيق عن الفضاءات المحلية والعربية، من خلال إمكانية تعزيز المقاربات التاريخية ورسم رؤى جديدة لمسيرة التقدم الحضاري للمنطقة ككل، بالتوازي مع الأدوار الرئيسة التي تلعبها كبرى المكاتب العالمية على مستوى الإنتاج للمعرفة المستقبلية وطرق مواجهة تحدياتها المتسارعة من مثل الجهود الاستراتيجية لمكتبة الكونجرس، ومتانة أرشيف المكتبة البريطانية بلندن، والمكتبة الوطنية الألمانية، وغيرها. إنها عملية مستمرة لإدراك موجة التحولات في كيفية تشكل المعلومة عبر «الحدث» وتطورها جزئياً من خلال استخدام الفكر، ما يقدم للمجتمعات تصورات متفردة، تسهم في بيان ملامح هوية كل مجتمع، وآلية تطور انفتاحها مع مختلف الثقافات المجتمعية، وجعلها فعلاً حاضراً بالتجربة الإنسانية، والذي بطبيعته يستدعي بشكل أساسي منصات تفاعلية مستدامة في مجالات النشر الورقي والرقمي، وفق معايير عالمية، فالأخير يمثل هدفاً نوعياً لمكتبة محمد بن راشد، أعلن عنها القائمون على المكتبة، ضمن اعتبارات الحاجة الماسة لتنويع البنى الثقافية، وتوسيع مفهوم القراءة، خاصة أن حضور أكثر من مليون ومئة ألف كتاب ورقي ورقمي باللغات العربية والأجنبية، وما يزيد على 6 ملايين رسالة علمية، و13 ألف مقالة، وأكثر من 5000 دورية ورقية وإلكترونية تاريخية كأرشيف لـ325 سنة، هو بمثابة مساحة نقاشية واسعة، لبناء مكونات معرفية ذات دلالات فكرية وعلمية، يستخدمها القراء من مختلف الفئات العمرية والتخصصات والاهتمامات، لبدء دورة الإنتاج الإبداعي، وتكوين رافد معرفي تتيحه مكتبة محمد بن راشد كقاعدة بيانات متجددة للمؤسسات العامة والأفراد، ويعتبر مؤشراً عاماً، يساهم في إنشاء المسارات الداعمة لتنامي المجتمع في دولة الإمارات. لغة حوار والمكتبات التسع في مكتبة محمد بن راشد، تحمل بذاتها نظاماً مستقلاً في تكوين مجتمعات مصغرة، لديها ذات الاهتمام في كل مجال، إلا أن المكتبة عملياً لا تفصل في نشاطها الرئيسي وهو تقديم المعلومات عن أهمية بناء لغة حوار ضمنية، يستشعرها المتلقي في العمارة الداخلية للمكتبة والمصممة بواجهة تضم مجموعة من الكتب المصفوفة، التي تنقلنا مباشرة إلى ما يمكن أن يقدمه أكثر من 29000 عنوان، تتضمنه المكتبة العامة، ومدى ارتباطها على سبيل المثال بـ«مكتبة الشباب»، التي تحتوي على كتب «naruto» المجموعة الشهيرة لـ«المانجا» اليابانية، وهنا استفهام مبسط، على ما يمكن أن تحدثه المخيلة الإنسانية، في أثناء استقبالها اللامحدود للمعرفة، والبدء بطرح الأسئلة التي لا تكاد في مستواها الخارجي تحمل طابعاً فكرياً، فمثلاً كيف لجماليات الخط في «مخطوطة ديوان المتنبي» ـالقرن السادس عشرـ أن تحقق انسجاماً بصرياً مع «أطلس تناغم الكون» لأندرياس سيلاريوس، وهو الأطلس السماوي الوحيد الذي نشر في العصر الذهبي لرسم الخرائط الهولندية خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر ميلاديين، وذلك ضمن مجموعة «ذخائر المكتبة» المتخصصة في الأعمال الفكرية والأدبية العالمية، التي يعود بعضها إلى القرن الثالث عشر. المجموعات النادرة وتعرض مجموعة «ذخائر المكتبة» كذلك الطبعة الأولى 1868 ـ 1869، من القطعة الأدبية الخالدة «الحرب والسلام» لمبدعها ليو تولستوي، ما يعود بنا للنقاش حول المنتج الأدبي واقتنائه ضمن المجموعات النادرة، باعتباره في الأصل قطعة فنية، وهو ما عبرت عنه مجازياً أطروحة مزينة بالرسوم باللغة الفارسية تتناول موضوع الخيول والفروسية عبر كتاب «فرس نامه، رسالة في الخيول»، سلطنة مغول الهند، القرن السابع عشر ميلادي، وأدت بنا للارتحال بأريحية تامه باتجاه «مكتبة الفنون والإعلام»، التي تحتوي على أكثر من 15000 عمل مطبوع وورقي، ووسائط متعددة في الفن والهندسة والتصميم والأزياء والفنون المسرحية، والسؤال عن 73 ألف مقطوعة موسيقية، ستكون متاحة للزوار في الفترة المقبلة، ومستقبل المكتبات والبيوت الموسيقية، في ظل احتواء المكتبة على المرجعيات العلمية والنقاشية لمجموعة متكاملة تتناول فن أم كلثوم «كوكب الشرق»، فهل يا تُرى ستحتفي مكتبة محمد بن راشد إلى جانب إبداعات العالم العربي والإبداعات الدولية في الموسيقى، بتوثيق الحس الجمالي والشعوري لموسيقى وآلات شكلت الكيانات الخاصة بالإيقاعات في الإمارات والخليج؟ فلا نزال نحن هنا في الإمارات نبحث عن أثر صوت النهام في قدرته على جعلنا قادرين على استيعاب ما يأتينا مع بحر الخليج من سرديات لا تنتهي، مثلما فعل الفنان Cao Jun، من خلال مزجه للفن الصيني الكلاسيكي والفن التجريدي، حيث يعرض كتابه في «مكتبة الفنون والإعلام» وهو عبارة عن لوحات للحيوانات البرية المبكرة، إلى مناظره الطبيعية والاستكشافات الحديثة للفضاء. لحظة تشاركية ورغم الفضول الذي يقود القراء نحو «مكتبة الخرائط والأطالس» للاطلاع على النسخة المعروفة لكتاب «The ATLAS OF MARS» الذي يقدم رسماً للخرائط لجغرافية وجيولوجية كوكب المريخ، إلا أن ما تقدمه «مكتبة مركز المعلومات» فيما يتعلق بتوفير بيئة آمنة لأصحاب الهمم، يفتح أفقاً للغة إنسانية مباشرة مبنية على الحس العام، في الفضاءات المعرفية، الفكرة منها التداخل والتناغم في إمكانية أن يشارك الزوار تجربة حيّه تمكنهم من أن يستخدموا أصابعهم ويمرروها على الكتب المطبوعة بنظام «برايل»، وهي متاحة للمكفوفين ليتمكنوا من القراءة، وبذلك يتم استحضار المجتمع بأكمله واندماجه في هذه اللحظة التشاركية، إلى جانب أن «مكتبة مركز المعلومات»، توفر مكانياً مساحة خاصة للأطفال والبالغين الذين يعانون من صعوبات في المعالجة الحسية عبر خيارات الإضاءة لتحسين المزاج، وهي مساحة شخصية تتسع لشخص بالغ وطفل، أو حتى ثلاثة أطفال، منهم الأطفال المصابون بالتوحد، والذين يفضلون في كثير من الأحيان الجلوس في مناطق هادئة، هذا البعد الاستثنائي والجمالي في تجربة الزائر لمكتبة محمد بن راشد، يمثل تعاضداً مجتمعياً من خلال التشارك المتساوي في الفضاءات العامة، فالجميع يملك أحقية المعرفة، وأيضاً المساحة المتاحة للاستفادة القصوى من المعلومة، وربما علينا التأمل قليلاً أن الميزة المجتمعية للمكتبة، في أنها ستضفي عنصر تحسين وتعزيز الذاكرة المشاعرية للزائر، وهي في العلوم الإنسانية العامة، تعتبر ممارسة لها طبيعة معرفية قائمة بذاتها تختلف عما تتضمنه التجربة الفكرية للأشخاص، ونجاح أيّ فضاء معرفي يكمن في أنه قادر على تحقيق انسجام نسبي بين الشعور والفكرة. ارتواء وتناغم تصميم مكتبة محمد بن راشد على شكل «رحل» وهو المسند الخشبي المستخدم لحمل الكتب، وخاصة نسخ القرآن الكريم، شغل العديد من المهتمين في القطاعات المعمارية، وهو كيفية تحفيز امتداد الموروث الاجتماعي والثقافي، وجعل الفرد مشاركاً نشطاً في تطوير اللغة البصرية العامة، فمع إضاءة الشمس الطبيعية المتداخلة في المبنى، يتمكن الجمهور من اكتشاف تفاصيل صغيرة جداً، منها ملاحظة الانعكاسات والظلال على الأحواض الصغيرة التي تحيط مبنى المكتبة من الخارج والداخل، حيث تشهد بعض تصاميم المكتبات في مكتبة محمد بن راشد، تداخلاً مدهشاً للماء، يوحي للمشاهد أنها لحظة ارتواء المكتبة والكتب، ما يهديها سيلاً من التناغم مع البيئة الخارجية المحيطة بالأشجار والنوافير، التي بدورها تتفاعل مع البحيرات الجانبية للمبنى، من خلال إسقاط أوراقها بتتابع خريفي في تلك المياه الساكنة بتدفقها اللانهائي.
مشاركة :