من العلا، عاصمة التاريخ القديم، ولدت أسطورة عشق "جميل بثينة"، وبعثت من جديد على خشبة مسرح جامعة الأميرة نورة في الرياض، لتعيد الروح والحياة إلى قصة حب عذري، وثقته الأشعار والمرويات، عن رجل ارتبط اسمه بمن يحب، كقصة حية لم تمت بمرور 1400 عام. احتل جميل بن معمر - أو إمام المحبين كما يطلق عليه - مكانة في صناعة الشعر، فهو من مدرسة الشعراء المحبين الموكلين بمحبوبة واحدة، ينظمون الشعر فيها ولا ينظمونه في غيرها، لكن النهاية السعيدة لم تكتب لجميل وصديقته بثينة. قوم إذا أحبوا ماتوا أحيت هيئة المسرح والفنون الأدائية في وزارة الثقافة، التراث العربي، عبر المسرحية الاستعراضية الغنائية "جميل بثينة"، من كتابة عبدالحليم كركلا، وأحيتها فرقة كركلا اللبنانية الشهيرة لفنون المسرح، حيث أدى دور البطولة سامر إسماعيل الفنان السوري، وأمل بوشوشة الفنانة الجزائرية، بمشاركة نحو 300 من المبدعين والممثلين والكتاب والشعراء. "قوم إذا أحبوا ماتوا".. هكذا صورت المسرحية الغنائية قبيلة عذرة، التي اشتهرت بالحب العذري العفيف، ولقيت تفاعلا كبيرا من الجمهور الذي ملأ قاعة المسرح تصفيقا على مدى خمسة أيام، بعد أن وصل المعنى وجدانهم، ولامست المحبة أعماق قلوبهم. مثل السعوديون نحو 40 في المائة من طاقم المسرحية، من بينهم ستة ممثلين وممثلتان، مع عشرة ممثلين ثانويين في بعض المشاهد، اختتموا مسرحية "جميل بثينة" بوصلة غنائية مهداة إلى المملكة وشعبها.. فكيف ولدت هذه القصة الخالدة؟ جميل المهدر دمه عباس محمود العقاد عملاق الأدب الراحل، مؤلف كتب "العبقريات"، أصدر كتابا باسم "جميل بثينة"، اعتمد في رسالته على كتاب "الأغاني" لأبي فرج الأصفهاني، لكونه أقرب إلى التمحيص والتثبت فيما يرويه. ومما رواه أن "جميل" عاش في القرن الأول للهجرة، وكانت حينها القبائل تمنع زواج الفتاة بمن ينظم فيها الغزل، حماية للعرض والسمعة، ويلتقي نسب جميل مع نسب صاحبته بثينة عند جدهما حن بن ربيعة، وكانا يقيمان في وادي القرى في واحة العلا، وكان قومه أعز من قومها، وأبوه ذا مال وفضل وقدر في أهله، يلقب بصباح، ويحسب له حساب كبير. فمن هيبته أن السلطان أهدر دم جميل إن وجده أهل بثينة في دورهم، فوجدوه عندهم مرات ولم يجترئوا على قتله، بل جعلوا يعذرون إليه وإلى أبيه مرة بعد مرة، مخافة حرب بين العشيرتين، كما ينقل لنا عباس العقاد. ومن جملة سيرته كما يروى، أنه كان صعبا لا يقاد، كان على شيء من العناد والخيلاء، اشتهر ببزته الحسنة وجمال مظهره، وقد ترجع هذه الخيلاء إلى النشأة العزيزة في بيوت الرئاسة في البادية، كما كان طويل القامة عريض المنكبين، مدللا في نشأته. الحسناء البدوية بثينة في وصف بثينة، مضى العقاد - نقلا عن أمهات الكتب - أنها "أدماء طوالة" كما قال عمر بن أبي ربيعة، وأنها تفرع النساء طولا، كما قال الرجل الذي حمل لها نعي جميل. ومن كلام عمر وجميل يبدو لنا أنها كانت على سنة البدويات حينها، في التأبي والدلال الذي يشوبه الجفاء. وقد وصفها جميل فأحسن وصفها، وقال عن ثغرها: مفلجة الأنياب لو أن ريقها يداوى به الموتى لقاموا من القبر.كانت الحسناء البدوية بثينة رشيقة معتدلة الخلق سامقة القوام، مستحبة الملامح لمن يراها، مفتونا بها أو غير مفتون. ورغم أنها حظيت بنصيب وافر من الذكاء، إلا أنها لا تخلو من حماقة وخفة، وقيل إنها دخلت على عبدالملك بن مروان، فرأى امرأة خلفاء - أي حمقاء - مولية، فقال لها "ما الذي رأى فيك جميل"؟ فقالت "الذي رأى فيك الناس حين استخلفوك". بعد أن حيل بين "الشرسة" بثينة والفارس جميل، زفها والدها إلى رجل ضعيف المنة لا يروقها ولا تهابه ولا تشعر بحماه، دميم أعور، لم تعش معه بثينة طول حياتها، وهو نبيه بن الأسود العذري، يتفاوت السن بينه وبين عروسه، فيما لم تورد المصادر أن جميلا تزوج إلى أن مات. حب لا يموت كان جميل في هواه لبثينة كحال المريض الذي لا يملك الشفاء، يقول عباس العقاد في توصيفه الفلسفي للعلاقة بين جميل وبثينة، "إن المزاج الفني - أو مزاج الشاعرية - للرجل كان معوانا له على التمادي في هذه الغواية، واستيحاء المقاصد الشعرية منها". النظرة الأولى كانت حينما أقبلت بثينة على وادي "بغيض"، وفيه إبل جميل، لترد الماء مع جارة لها، فنفرت الإبل عن المورد، فسبها جميل وسبته، ويبدو أنه استملح سبابها وأحبها، فكان هذا أول التعارف بينهما، ونسب بها منذ ذلك اليوم، بعد أن كان ينسب إلى أختها أم الجسير أو أم الحسين، وقيل إنه كان يحبها على اختلاف الروايات. ويتعجب العقاد في رسالته أو كتابه الصغير عن جميل بثينة، ويقول "هذا موضع للعجب والملاحظة، لم نسب بها وهو لا يجهل أن النسيب يحول بينهما وبين الزواج، كما جرت سنة البادية التي لا تخفى عليه"؟ أما الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي، فيشكك في بعض أخبار جميل بثينة، ولا سيما أنه غدر بها مرة، فالغدر لا يمكن أن يصدر عن حبيب عذري كما نفهمه، حيث يروى أن أهل بثينة أذاعوا في الناس أن جميلا لا ينسب بابنتهم، إنما ينسب بأمة لهم، فغضب جميل وأراد أن يكذبهم، فواعد بثينة والتقيا ذات ليلة، ثم عرض عليها أن تضطجع فمانعت، ثم قبلت وأخذها النوم، فلما استوثق جميل من ذلك نهض إلى راحلته فمضى، وحينما أصبح الناس رأوا بثينة نائمة في غير بيتها، ولم يشكوا في أنها كانت مع جميل، الذي قال في ذلك شعرا، "أتظن مثل هذا الخبر يمكن أن يكون حقا، وأن رجلا كجميل كان يحب بثينة حبا كالذي نجده في شعره، يستطيع أن يعرضها لمثل هذه الفضيحة"؟ على حد تعبير طه حسين. فيما يميل العقاد إلى تصديق ذلك، ويقول "لو كان محبا حقا لترك النسيب بالمحبوبة ليظفر بها ولا يفقدها، ضيع بثينة كلها، وليس بعجيب منه أن يعرضها لفضيحة لا تضيرها، في سبيل كرامة هواه وكرامة نسيبه، وكرامة نسبه وأهله". احتضار وفراق في قصة جميل بثينة كثير من المواقف والأخبار والأبيات الشعرية التي تتسع لكتب، ومما ورد فيها أن زواجها زاده ولها بها، ولم تكن تتوارى عنه إذا جاءها، وتساعدها أخواتها على الاجتماع به، وتعرض له أهلها وأنسباؤها للإيقاع به، فكان يدفعهم عنه، معتزا بسيفه وشجاعته، لا يبالي تألبهم عليه. قصد جميل مصر ومات فيها عام 82 من الهجرة، وروى عباس بن سهل الساعدي، أحد التابعين ورواة الحديث "دخلنا على جميل وهو يحتضر، فنظر إلي وقال: يا ابن سهل، ما تقول في رجل لم يشرب الخمر، ولم يزن، ولم يقتل النفس، ولم يسرق، وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؟ قلت: أظنه قد نجا، فمن هذا الرجل؟ قال: أنا.. قلت: ما أحسبك سلمت وأنت تنسب ببثينة منذ 20 عاما، فعاد يقسم: لا نالتني شفاعة محمد إن كنت وضعت يدي عليها لريبة، وأكثر ما كان مني أن أسند يدها إلى فؤادي أستريح ساعة".
مشاركة :