يحرص صنف من المؤلفين على مخاطبة عينة محددة من القراء، فيعمدون إلى أسلوب التضليل في اختيار عنوان الكتاب، وحتى في فهرس المحتويات، ما يضمن وقوع المؤلف بين يدي أهل الثقافة والأدب، لا هواة العناوين البراقة وعشاق الإثارة والتسويق التجاري. كان هذا نهج إيريك دو كيرميل الكاتب والصحافي الفرنسي، في رائعته "مكتبة ساحة الأعشاب" (2017)، المترجمة إلى العربية عن المركز الثقافي العربي، بقلم مصطفى الورياغلي المترجم المغربي "2019". يتقدم القارئ في التهام صفحات الرواية، المكتوبة بأسلوب مثير، فتتراجع الانطباعات، وتسقط التوقعات التي تشكلت لحظة اللقاء بالكتاب، هذا إن لم يكن الالتباس قد غشاه وهو يقرأ عناوين فهرس المحتويات، فلا وجود - ظاهريا على الأقل - لخيط ناظم بينها، فكل عنوان يتضمن اسم علم مع جملة دالة، فنجد مثلا "ناتالي أو كيف غيرت حياتي" و"جاك تأملات المتنزه المنفرد بنفسه" و"باستيان الرسول الصامت" و"ليلى في استكشاف الكلمات والذات" و"الأخت فيرونيكا سعادة بسيطة" و"طارق إخوان الكتب"... توشك تلك العناوين على أن تصبح بذاتها حكايات مستقلة، لولا مكان وقوع الأحداث، أي داخل المكتبة، وارتباط موضوع الأحداث بالكتب. ربما لذلك - أي لأهمية المكتبة والكتب في الرواية - وضع لها الكاتب مقدمة يجيب فيها عن سؤال "ما معنى مكتبة؟". إنها باختصار "بنك مركزي من صنف شديد الخصوصية، لا تصنع فيه العملة". ويبسط القول في الحديث عن الكتب، "مثلما أننا معشر البشر يختلف بعضنا عن بعض، كذلك لا يشبه كتاب كتابا آخر. فالكتاب الذي قد يؤثر في الواحد، قد لا يكون له أي أثر في الآخر. لكل حماسه. وكل قراءة هي سفر وعشق". يهيئ دو كيرميل بهذا الاستهلال القارئ لفصول الرواية التي تنسجها نتالي، الشخصية الرئيسة، أستاذة الأدب الفرنسي التي اختارت مغادرة حجرات الدرس، لتعيش في مدينة أوزيس، المدينة الريفية الصغيرة التاريخية، حياة مع الكتب وبينها، بعد شرائها "مكتبة ساحة الأعشاب". شكلت لحظة الانتقال من مدرسة إلى كتبية نقطة فارقة في حياتي ناتالي، "عندما وقعت العقد الموثق الذي جعل مني صاحبة المكتبة، كنت سعيدة سعادتي بولادة ولدي. الاختلاف هو أني عندما أصحبت كتبية، كنت أشعر كأني أولد في ذاتي من جديد، بدل أن أمنح الحياة لكائن آخر". صدقت نتالي، فقد كان الأمر فعلا كذلك، بعدما بدأت صاحبة المكتبة في نسج قصص مع شخصيات جديدة في الرواية، يمثلون زبائن المكتبة. ففي كل فصل شخصية بقصة وأحداث مميزة مدارها الكتب، فكانت حكاية القارئة الصغيرة كلووي التي تقرأ بناء على توجيهات والدتها، قبل أن تشق عصا الطاعة، وتتحرر من سلطة الرقابة بدعم ومساعدة ناتالي. وقصة ليلى المغربية التي دخلت المكتبة "أمية"، وخرجت وهي تمتلك ناصية القراءة. ثم الرسول الصامت باستيان الذي كانت مكتبة ساحة الأعشاب مكانا لمصالحة بين الأب وابنه، بعد 40 عاما من الفراق. وقصة طارق الجندي الفرنسي المريض الذي أصيب بصدمة نفسية جراء الحرب، وكانت المكتبة سبب لقاء ناتالي به في المشفى، حيث نتعرف على أخوة جديدة، "أخي من الكتب مثلما يكون آخرون إخوة الدم"... تتوالى الشخصيات "الرحالة جاك، الرحالة فيليب، الأخت فيرونيكا، ساعي البريد أرثور، العجوزة سولانج"، وتتعاقب الأحداث لتنسج حكاية طريفة بأسلوب ساحر في الحوار، يكون أساسه عنوان كتاب أو متن، يتولد عنه نقاش عن الكتب وحولها بمقترحات جديدة، وآراء وتعليقات، وأحيانا إلى تقريض، يقود حتما إلى مزيد من الكتب. حتى بات شعار صاحبة المكتبة هو "قل لي ماذا تقرأ، أقل لك من أنت". يحاول دو كيرميل، بين الفينة والأخرى، أن يرفع القراء عاليا، حسبما يسمح به السياق، فيتحدث عن أثر الشخصية في حياة الفرد مثلا، فيقول "أدين بكثير لقراءاتي، هي التي جعلتني أكبر وأختار طريقي. وسمحت لي ألا أرى العالم عبر نظاراتي فحسب، لكن أيضا عبر وجهة نظر أولئك الذين أدخلوني إلى عوالم أخرى، وعصور أخرى". ويضيف على لسان البطلة "لم أشعر أبدا أني أقرب ما أكون إلى نفسي، إلا عند قراءتي كلمات شخص آخر. كل أولئك الذين شاركوني خصوصيتي، فعلوا ذلك بحياء ومن دون أن يحاكموا مشاعري.. اكتشفت من أنا بفضل احتكاكي بجملهم. بكيت رفقتهم بقدر ما ضحكت". تحدث الكاتب عن متعة الاختلاء بالكتب، "تعجبني اللحظة التي أجد فيها نفسي وحيدة مع الكتب. ينتابني حينئذ الشعور بأني الأكثر حظوة في العالم. تحيط بي أجمل حكايات الإنسانية". وشدد على دور الكتب في تجسير العلاقات الإنسانية، فعندما "نكتشف أن صديقا أو صديقة يشاركنا حب الكتاب نفسه، فإن ذلك يضفي على الحوار كثافة جديدة، كأننا قد عشنا معا رحلة استكشافية إلى الطرف الآخر البعيد من العالم". وذهب حد مقارنة تأثير الكتب بتأثير الإنسان، "مثلما يمكن للبعض أن يحدد ما اللقاء الذي غير مجرى حياته. كذلك يمكن، بقليل من التفكير، أن نضع قائمة بالكتب التي شكلت بالنسبة إلينا مراجع، كأنها معالم في طريقنا. قد تكون أحيانا معالم مطمئنة في طريق كنا نحسب أنفسنا تائهين فيه، وقد تكون، في أحيان أخرى، دعوات إلى تغيير الاتجاه، بل إلى إحداث تحول". نعم تمنحنا القراءة أجمل الأسفار، حتى بالنسبة إلى من لم يغادر أبدا أرضه. ولا تحتاج الكتب إلا إلى التبني، لكي ترد الجميل لمن يحبها، فتمنحه غالبا ما يطلبه، معالم جديدة لفهم هذا العالم، والقدرة على العيش فيه. فمنذ اليوم الذي ينشر فيه الكتاب، يصير ملكا لكل واحد من قرائه، وليس لمؤلفه فحسب، لأنه - بكل بساطة - عابر للحدود، فالكلمات الأولى في صفحته الأولى تمنح مفاتيح عالم جديد، كان مجهولا قبل فتح الكتاب. مع كل زبون/ قارئ يلج باب المكتبة تولد قصة جديدة، يحاول الكاتب من خلالها أن يؤكد أن الأساس هو "ببساطة تقدير ما نملكه، من دون أن نبكي على ما فقدناه أو نحلم بما لم نتملكه بعد". وكان حديث مريض بالسرطان خير دليل على ذلك، حيث نقرأ "أعادت إلي الكتب تلك الطاقة التي كانت قد غادرتني، وكان أثرها أنجع من ذلك الخليط من المقويات والأدوية التي وصفها لي الأطباء". يضرب قارئ رواية "مكتبة ساحة الأعشاب" لنفسه موعدا مع رحلة مميزة، ظاهرها التجوال في عالم الكتب، بالنظر إلى الكم الهائل من المعارف والمعلومات الواردة في النقاشات بين ناتالي وزبائنها. وباطنها تجارب مصالحة مع الذات ومع الآخرين، يكون منطلقها الكتاب. فقراءة الكتب تلهمنا، وتجعل حياتنا أمتع، ومعرفة الناس أعمق، ليبقى شعار القراء الأبدي "قل لي ماذا تقرأ، أقل لك من أنت".
مشاركة :