بغض النظر عن موقفك من الألعاب الإلكترونية، وسواء كنت من الآباء والأمهات الذين يرون أنها مضيعة للوقت، وأن الأولاد يقضون ساعات طويلة أمامها بما يلهيهم عن أداء واجباتهم المدرسية، أو أن هذا النوع من الألعاب يأخذهم بعيدا عن ألعاب أخرى تربينا عليها، ونعتقد أنها أكثر فائدة للأجسام والعقول وتنويع العلاقات الاجتماعية، أو كنت من محبي الألعاب الإلكترونية وترى فيها ألعابا عصرية تخلصك من توتر الحياة اليومية واحتقان الحياة المعاصرة، بما تحتويه من إثارة ومتعة، وتسمح لك بالاستمتاع وتحقق لك السعادة دون أن تغادر غرفتك.. أيا كان موقفك من تلك الألعاب فإننا نقف أمام حقيقة من حقائق العصر، لا يمكن إنكارها أو التقليل من شأنها كمسلمة من مسلمات الحياة اليومية. بالمفاهيم الاقتصادية، نحن أمام صناعة من الصناعات التي أصبحت لاعبا أساسيا في الاقتصاد العالمي إلى حد كبير، وليس في هذا أي مبالغة كما سنرى، المثير للاهتمام أننا أمام صناعة لا يتعدى عمرها ستة عقود ونصف تقريبا، وعلى الرغم من ذلك باتت من القوة والثراء، بحيث باتت جزءا أصيلا من المشهد الاقتصادي. وصممت أول لعبة فيديو في العالم في أكتوبر من 1958 على يد وليم هيجينبوثام الفيزيائي الأماني، كانت اللعبة بالطبع - بمعايير اليوم - بدائية للغاية، لكن بمعايير وقتها كانت البداية الحقيقية لثورة الألعاب الإلكترونية التي نحياها اليوم، لم تكن اللعبة أكثر من لعبة لرياضة التنس يلعبها شخصان على جهاز كمبيوتر، كانت تلك هي الخطوة الأولى، بسيطة لكنها قفزة نوعية تفتح آفاقا جديدة لصناعة واعدة. بعدها بأعوام، وفي أوائل 1962 كان ستيف راسل الطالب الشاب في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في الولايات المتحدة يصمم أول لعبة فيديو قتالية تعتمد على الكمبيوتر، الجديد لم يكن اللعبة فحسب بل إمكانية تشغيلها على عدة أجهزة كمبيوتر، إنها لعبة "حرب النجوم" التي فتحت الأبواب أمام الهوس الاجتماعي الذي نشهده اليوم في عالم ألعاب الفيديو، ودشنت الطريق أمام صناعة تشكل اقتصادنا بطريقة أكثر عمقا. بلغة الأرقام تعد صناعة ألعاب الفيديو الإلكترونية واحدة من 50 ابتكارا ساعد على إيجاد عالمنا الاقتصادي المعاصر، فالقيمة الإجمالية للصناعة تتجاوز الآن 300 مليار دولار، وهناك نحو ثلاثة مليارات لاعب ناشط في جميع أنحاء العالم، من بينهم 70 مليون لاعب في اليابان فقط، وبلغت عائدات الصناعة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ 72.2 مليار دولار، ويقدر إنفاق اللاعبين على ألعاب الواقع الافتراضي في 2020 بنحو 4.5 مليار دولار، بينما تبلغ قيمة أكبر شركة لألعاب الفيديو "نينتندو" 85 مليار دولار. تلك الأرقام تكشف لنا الثقل الذي تتمتع به الألعاب الإلكترونية حاليا، لكن بخلاف الأموال المنفقة على ألعاب الفيديو، أو عدد اللاعبين، فإن الأهم من وجهة نظر الدكتور ال. جي تيم أستاذ التاريخ الاقتصادي في جامعة لندن أن تلك الألعاب تؤثر في الاقتصاد العالمي بطريقتين. وقال لـ"الاقتصادية"، "إنه يمكن لتلك العوالم الافتراضية أن توفر وظائف حقيقية، وهذا يسهم إلى حد كبير في التغلب على البطالة، الإضافة الثانية أن هذا العالم الافتراضي يسمح لأشخاص حقيقيين بكسب أموال حقيقية، ففي اليابان على سبيل المثال بعض الأشخاص يكسبون عشرات الآلاف من الدولارات شهريا من مواقع المزادات، حيث يبيعون شخصيات ألعاب افتراضية، وهذا يضيف إلى الثروة الإجمالية للمجتمع". المؤكد الآن أن صناعة ألعاب الفيديو الإلكترونية تتطور بشكل سريع وبطريقة تأخذها إلى آفاق جديدة ومميزة، ما يجعلها إحدى أكثر الصناعات ربحية الآن، وإذا كانت صناعة الألعاب قد نمت بشكل كبير في العقد الماضي، فإن جائحة كورونا مثلت نقلة نوعية في تاريخ الصناعة وتطورها، والسبب باختصار أن كثيرا من الناس بات لديهم كثير من الوقت يمكن تخصيصه للعب لتخفيف التوتر والملل، ومع انتهاء أو تراجع جائحة كورونا بشكل كبير لم يتوقف هذا الاتجاه عن النمو. ويعتقد المهندس جونسون وايز الخبير في تطوير ألعاب الفيديو أن هناك عددا من التطورات التكنولوجية المتسارعة يصب في خدمة الإقبال الجماهيري على ألعاب الفيديو، ومن ثم في تطور الصناعة وازدهارها. وقال وايز لـ"الاقتصادية"، "إن تقنية 5G الآن التي توفر سرعات أعلى بكثير في كل من التنزيل والتحميل، تتيح للمطورين إنشاء ألعاب أكثر إثارة، ولن تواجه الألعاب الجديدة أي مشكلات، ولن يكون حجم ملفات اللعبة مشكلة، لأن سرعة التنزيل ستعوض ذلك، كما أن مشغلات الكمبيوتر ووحدات التحكم ستؤثر في جميع مشغلات الأجهزة المحمولة، وسيكون بمقدور الجميع لعب ألعاب أفضل خاصة الألعاب متعددة اللاعبين، كما يمكن زيادة عدد اللاعبين المتصلين بخادم معين". ويستدرك قائلا "يضاف إلى ذلك النمو المتواصل في تقنيات الواقع الافتراضي التي تقوم بعملية ترقية مستمرة للمعدات والأدوات التي تستخدم لتحسين تجربة الألعاب لدينا، هذا التحول في اللعب التقليدية سينجم عنه توسيع في السوق الاستهلاكية وزيادة ضخمة في الطلب، كما سيجذب مزيدا من اللاعبين لممارسة التجربة الجديدة، وهذا سينعكس على الصناعة ذاتها وجاذبيتها الاستثمارية ورؤوس الأموال التي ستضخ فيها والطابع التنافسي المتزايد، ما يسمح بإعادة توزيع الموارد بصورة أكثر ربحية". إلا أن تلك الاتجاهات وعلى الرغم من أهميتها لا تعد التغير الوحيد الذي يسهم في توسع الصناعة مستقبلا، إذ يلاحظ الخبراء أن فترة جائحة كورونا أسهمت في زيادة التنوع في الألعاب، ولا يعد سرا يخفى أن معظم اللاعبين في ألعاب الفيديو هم من الذكور، إلا أن المشهد يتغير الآن بحيث باتت النساء تمثل نسبة ملحوظة من اللاعبين. وقالت لـ"الاقتصادية" الدكتورة ماري جريش الخبيرة في مجال التسويق، "إن الألعاب المحمولة على الهواتف باتت تجذب الآن النساء، ففي الولايات المتحدة 65 في المائة من النساء يلعبن ألعاب الهاتف المحمول، كما أن بعض الألعاب المصممة حديثا ساعدت على جذب النساء إلى عالم ألعاب الفيديو والرياضات الإلكترونية، وتشير بعض التقديرات إلى أن النساء يمثلن الآن 45 في المائة من اللاعبين في بعض ألعاب الفيديو". وأضافت "هذا يختلف عن الوضع في الصناعة ذاتها، إذ لا تمثل النساء سوى 30 في المائة فقط من العاملين فيها، وهذا يفسر جزئيا حقيقية أن معظم أبطال الألعاب هم من الذكور". لكن انخفاض نسبة تمثيل النساء في الصناعة لا يعد الآن النقد الوحيد الذي يوجه إليها، فقد أصبح إنشاء ألعاب الفيديو معقدا بشكل متزايد، وارتفعت تكلفة إنشاء لعبة جديدة وما يرافق ذلك من تكاليف تشغيل وتسويق، وباتت بعض ألعاب الفيديو تكلف الآن عشرات بل مئات الملايين من الدولارات. وذكر لـ"الاقتصادية" أندروا باتي الباحث في مجال التنافسية الاقتصادية، أن "طابع الاحتكار لم يعد فقط يسيطر على الصناعة، بل إنه أخذ في التزايد بشكل كبير، بحيث يتم تقريبا إخراج أي منافس جديد من قبل الشركات الكبرى التي تهيمن بشكل مطلق على الصناعة نتيجة التكلفة الضخمة لعملية إنتاج لعبة جديدة، كما أن الأرباح الضخمة التي تحصل عليها شركات ألعاب الفيديو الإلكترونية تمنحها القدرة المالية على الاستحواذ على أي شركة جديدة ناشئة قد تمثل منافسا لها". وأضاف باتي، أن "هناك حاجة ماسة خاصة في ظل النمو المتزايد لصناعة ألعاب الفيديو الإلكترونية لإعادة النظر في القوانين المنظمة لها، بحيث يتم إضعاف الطابع الاحتكاري المتزايد حاليا في الصناعة، وفتح الأفق للشركات الصغيرة الناشئة للمضي قدما والمنافسة في هذا المجال، خاصة في ظل ما تتمتع به الصناعة من معدلات ربحية ضخمة، نتيجة زيادة الإيرادات من ملكيتها الفكرية مثل بيع السلع المرافقة مثل القمصان والقبعات والأكواب والأقلام".
مشاركة :