اقتحمنا عليه عزلته الاختيارية، التي يعكف الكاتب «عبده جبير» من خلالها على مشروعه الإبداعى، متحللاً من أوهام المثقفين وعراكاتهم البائسة، فكل ما يعنيه أن يبدع معزوفاته السردية فى هدوء وتجرد الرهبان.. حاورناه في قضايا الأدب والثقافة ودور المثقف في المشهد السياسي المتغير والذي يراه هو «جعجة بدون طحن»، حتى المشهد الثقافي يرى أن السلطة الثقافية تغدق على رجالها بالجوائز والهبات فقط وأصحاب المشروعات الثقافية الجبارة لا يجدون من يتولى طباعتها أو نشرها.. وضيفنا منذ أشهر بدأ فى إصدار أعماله الكاملة، وكان الأولى بتجربته الباذخة أن تتولى إحدى هيئات المؤسسة الثقافية طباعة هذه الأعمال، ولكن لا حياة لمن تنادى!! حول أحوال الثقافة والمثقفين وقضياهم يقدم لنا عبده جبير رؤيته الخاصة، في هذا الحوار الخاص لـ»المدينة».. * يشكك البعض في بصيرة المثقف المبدع حين يستشرف المستقبل، رغم صوابها في الغالب الأعم، وقد قلت لي عقب ثورة 25 يناير في مصر أنك خائف عليها من «كدابين الزفة».. ألا تري معي أن الزفة تحولت إلي سرادق عزاء تتخبط فيه كل التيارات، كيف تري المشهد الحالي؟ ـ الحقيقة أنني كنت قد أكدت علي مقولة الناقد والمفكر الكبير «إبراهيم فتحي» التي أعلنها في حينه، فأنا حين يطلب مني أن أتحدث عن الشأن العام أو الوضع السياسي فإنني ألجأ إلي المتخصصين في ذلك، وأعني المفكرين الكبار كإبراهيم فتحي، وفي مرة أخري استندت إلي رأي المفكر الكبير سمير أمين، فهؤلاء أقدر مني علي تحليل مثل هذه الظواهر، فقد كان رأي سمير أمين عما جرى مبدأيا في 25 يناير أنها بداية حالة ثورية قد تتكرر موجاتها في سياق أن الثورة تكون ثورة حين تتحقق الأهداف التي رفعتها في شعاراتها، وهذا الرأي الخاص بكدابين الزفة كان قد أعلنه فتحي في حينه وما كان مني إلا أن استعرته منه، حين أبديت مخاوفي عما كان يجري من أحداث في أعقاب ثورة (أو لنقل موجة) 25 يناير، وها نحن وبعد مرور عدة سنوات نري صدق تحليل المفكرين الكبيرين اللذين أعتقد أنها قد بنيا رأيهما علي تحليل علمي لوقائع ما جرى، وها أنت تؤكد معي أن كدابين الزفة، وهم بالمناسبة الذين يتم تأجيرهم من أجل زيادة «الزيطة» في الأعراس التي يريد أصحابها أن يملأوا الحارة بالصياح والضجيج من أجل التفاخر المظهري الكاذب فيلجأون الي استئجار المهرجين من أجل دفع المتفرجين للإحساس بأن الزفة كانت كبيرة، ليملأوا الحارة بالصياح والزغاريد المستعارة، أقول أنت تري معي الآن أن كدابين الزفة قد حولوا هذا الحدث النبيل إلي سرادق عزاء تتخبط فيه كل التيارات، نعم فنحن شاهدنا صدق المثل القائل الملائم لهذه الحالة والذي يقول «أسمع جعجعة، ولا أرى طحنًا»، وعلى الرغم من أن بعض المسائل الهامة قد تحققت مثل استعادة وضع المرأة المصرية مثلاً، إلا أن الأهداف الأساسية للثورة لم تتحقق، لذا وجدنا الحياة العامة في حالة ارتباك شديد، بل وللأسف وجدنا أن الأحزاب والجماعات التي عقدنا عليها الآمال وقد بدأت تنقسم على نفسها بدلا من أن تتحد وتتكاتف، نحن فعلاً في سرادق عزاء كبير يشمل مصر كلها. التقسيم الطبقي * أشعر بأن ثمة تقسيم طبقي للكتاب في كل جيل، يقصي كثيرًا من أدبائنا الكبار لصالح آخرين، يغدق عليهم الإعلام بكراماته وتمنحهم المؤسسات الرسمية الجوائز ويتم اختصار كل جيل في حفنة لا تزيد عن عدد أصابع اليدين، فهل هذه الرؤية صائبة أم متشائمة بعض الشيء؟ ـ من الواضح طبعًا أنك تستعير مصطلح التقسيم الطبقي من مجال التحليل المجتمعي إلي مجال التحيز الإعلامي لعدد معين من الأدباء في ظرف معين من قبل جهات معينة، التي قد تكون أحيانًا سلطة رأس المال أو السلطة الثقافية التي تحتاج دومًا لمن يقف معها من المثقفين فتكافئهم بجوائزها أو هباتها، وهذا صحيح، لكن المشكلة أن هذا دليل علي تخلف الفريقين، أو لنقل هذا دليل علي أننا لا زلنا مجتمعًا متخلفًا، لا يعرف الحدود بين الأشياء كما لا يعرف دوره من جهة، ودور الأدباء في المجتمع من جهة أخري، فرأس المال الذكي كما السلطة الثقافية الذكية يعرفان أن دور الأديب (باختصار قد يكون مخلاً) هو أن يبشر بالمستقبل، وأن دورهما هو تنمية الوضع الراهن ليلحق برؤية المبدع التي يبشر بها، وهنا يسلكان سلوكًا شفافًا مع الجميع، ويحولان الجوائز مثلاً إلي مؤسسات مستقلة لها لوائح محترمة تأتي بلجان محترمة وعادلة وغير متحيزة إلا للقيمة الأدبية حتى تكون للجائزة مصداقية، و نري هذا في بعض المجتمعات المتقدمة التي يمكن أن تكون قد لجأت إلي هذا النظام المؤسسي للمنح والمنع، في الأغلب الأعم، لكنني أعتقد بأن الأديب الذي يريد أن يحافظ علي لؤلؤة الإبداع الكامنة في روحه عليه أن يبتعد عن هذه الأجواء ويعمل في جو من النقاء وإلا فإنه سيشوه نفسه بيده وهذا في رأيي نوع من الغباء والتخلف، لذلك تراني أحاول بكل ما أستطيع من عزيمة أن أحافظ علي هذه المنحة التي منحها الله لي، وأن أبتعد عن محركات التلوث، فهذه أمانة نحن مسؤولون عنها أمام مجتمعنا، ومن يفرط فيها فإنه يفرط في أغلي شيء لا يمكن تعويضه لا بالمال أو بأي جوائز، ولكن بعضنا ربما تضطره الظروف للتفريط في روحه، ولكن تأثير هذا سرعان ما سيجعل هؤلاء يندمون علي ما فرطوا فيه، ومع ذلك فإنني أعذر هؤلاء فالحقيقة أن وضع المبدعين وضع سيئ للغاية، وما يحصله أي أديب من عمله لا يكفي لتغطية نفقات ما يحتاجه من تبغ وقهوة كي يجلس ويعمل، الوضع سيئ أكثر مما يمكن أن يحتمل، لذا فإذا أردنا أن نكون رحماء بعضنا بالبعض، علينا أولاً أن ندفع في اتجاه النضال من أجل أن يحصل المبدعون علي حقوق تأليف تمكنهم من الاستمرار في عملهم دون اللجوء إلي مد أيديهم إلى هذه الجهة أو تلك المؤسسة، وقبل أن يتحقق ذلك علينا أن ننظر إليهم بعين الأسى والحزن. محو الأمية أولا * جيل السبعينيات هو الجيل الذي عاصر الانهيارات الكبرى للأحلام الستينية، فهل بقي من هذه الأحلام المهدرة ما يصلح الحياة في الوقت الراهن؟ ـ سؤالك صعب والإجابة عنه قد تحتاج لمجلدات، أولاً هناك كلام كثير يمكن أن يقال عن فكرة الأجيال، أو بالأحرى مقولة الأجيال، التي لم يحسمها لا علماء الاجتماع ولا علماء الأنثربولوجيا أو حتى مؤرخو الأدب، فهل الجيل يحدد بعشر سنوات أم بعشرين أم بخمسين ؟، الشيء الثاني هل كانت هناك أحلام ستينية بدأت وانتهت في السبعينيات ؟، ثالثا.. والخ، لكنني أستطيع أن أقول وبناء علي ما جري السير عليه، بأن أحلام الستينيات قد تمت صياغتها صياغة ملتبسة، وبالتالي لم تكن أحلاما متكاملة انبنت علي خطط محددة تم حلها واحدة بعد أخري وبالترتيب اللازم، مثلا كانت هناك برامج للتصنيع تم السير في تنفيذها بخطوات غير مدروسة، لأنك لا يمكن أن تقيم مجتمعًا صناعيًا في ظل أمية تزيد نسبتها عن خمسين في المئة من عدد السكان الذين من المفترض أن يقيموا هذا المجتمع الصناعي، انظر ماذا فعلنا وماذا فعلت الصين أو اليابان، فهم وهم يخططون للمجتمع الصناعي قاموا بثورة حقيقية في مجال محو الأمية، ولذلك نجحت الخطط، أما عندنا فقد أديى عدم النظر لوقائع ما هو موجود بأن فشل التصنيع وزادت الأمية، لذا فإننا إذا أردنا تحقيق نهضة حقيقية فعلينا أولا أن نقضي علي الأمية ولو بإغلاق الجامعات والمدارس لمدة عام ونقوم بفتح مقارها لبرنامج شامل لمحو الأمية يقضي عليها خلال هذا العام وأعتقد أن هذا ممكن، وعلينا أن ننظر ماذا حدث في الصين مثلاً، فلا يمكن أن نحقق نهضة مرجوة في مجتمع أغلبه أميون، وأنا أعني بالأمية أمية القراءة والكتابة ثم الأمية الثقافية (وبالمناسبة فإن قانون التعليم الإلزامي لا يزال موجودًا في الأدراج غير مفعل فلم لا يفعل؟)، أنا أعتقد بأنه ليس هناك أي أمل في قيام نهضة حقيقية دون القضاء نهائيًا علي الأمية، فلا تسألني عن أحلام قبل أن تقوم بمحو الأمية، نقطة ومن أول السطر. الالتزام والتعفف * يظل نجيب محفوظ علامة فارقة في تاريخ الأدب العربي، كيف تري هذه القامة بعد سنوات من رحيله ومن خلال اقترابك منه؟ ـ أعتقد أن هذا السؤال يجب أن يوجه إلي مؤرخي الأدب، لا لممارسي الأدب، لسبب بسيط هو أن كل كاتب له رؤيته الخاصة وتصوره الخاص وهو تصور بالضرورة مختلف عن كل الكتاب الآخرين سواء من السابقين أو المعاصرين، والسؤال هو بالنسبة لي هل تعلمت من نجيب محفوظ شيئًا؟ أستطيع أن أقول أنني تعلمت منه الكثير في مجال الالتزام بالعمل الدائم والعشق لشكل الرواية كما تعلمت منه الكثير في مجال التعفف عن التكالب علي متاع الدنيا الزائلة فلم يطمح الرجل أبدا للحصول علي الملايين، ولا الحياة المبهرجة، فقد ظل طوال عمره وحتى وفاته يعيش في شقة متواضعة بها غرفتي نوم، واحدة له وزوجته، والأخرى لابنتيه، ولم يمتلك يومًا سيارة فارهة أو قصرًا في الريفييرا، واكتفي بحياة بسيطة لكن منتجة، لكنني أعتقد أنني من شريحة أخري من كتاب الرواية هي شريحة المجددين لذا وهنا أستطيع أن أقول أنني ربما تعلمت من ليون تولستوي أكثر مما تعلمت من محفوظ في مجال الكتابة الروائية، وأرجو أن يُفهم كلامي هذا علي حقيقته، وألا يغضب هذا كذابي زفة نجيب محفوظ. إحباط المبدعين * يعج المشهد الروائي تحديدا بتيارات شبابية.. ما رأيك في هذا الزخم الروائي؟ ـ أولا وكما يقال «قولاً واحدًا» أنا سعيد جدًا بهذا العدد الكبير من الذين يكتبون في مجال الرواية، لا في مصر وحدها، بل في أغلب البلاد العربية، كما أقر بأنني أهتف بفرحة غامرة، فهذا يعني أن شكل الرواية الذي كان ولفترة خمسين سنة مضت يعد شكلاً دخيلاً علي الأدب العربي، هاهو الآن وبكل هذا النتاج أضحي الشكل الأكثر انتشارًا عند الكتاب والقراء جميعًا، لكن هل هناك «تيار» روائي بالمعني العلمي له ملامح مدرسة أدبية متناسقة، أو كما تقول «تيارات»، هل لدينا تيارات روائية، أشك في ذلك، بل أزعم أن هناك محاولات جادة في مجال كتابة الرواية الجديدة علي يد عدد كبير من الكتاب الشباب والكاتبات الشابات، والسؤال الآن هل هذه ظاهرة صحية، أجل أعتقد أن هذه ظاهرة صحية جدًا، لكنني أظن أن عددًا كبيرًا من هؤلاء سيغيرون مسارهم كما يحدث عادة في أي موجة تفور في مجال معين من الأدب، ثم تنطفئ بعض فروعها، ففي فترة السبعينات «ملحوقة» بالستينات كان هناك عشرات إن لم نقل مئات من كتاب القصة القصيرة، لكن ومع مرور الوقت صفي هذا العدد إلي رقم معقول من كتاب القصة القصيرة، هم هؤلاء الذين صمدوا واستمروا، ويجب هنا أن نقول إنه وللأسف فإن هذه التصفية تحدث أحيانًا لأسباب من التخلف الذي نعيشه والظلم الذي يحسه المبدع في البلاد العربية، حيث تتسبب وسائل الإعلام والشللية والسلطات الثقافية الجاهلة والنقاد الذين لا يتحملون المسؤولية بأمانه، تقوم كل هذه العوامل بإحباط عدد كبير من المبدعين الذين ينتهون بعدم جدوى الأدب ويتوقفون أو يجنون أو ينتحرون فعليًا أو مجازًا، للأسف، وأنا لا يفوتني أن أذكر كاتبًا موهوبًا أكثر ما تكون الموهبة اسمه حسين علي حسين، كما كاتب آخر اسمه إبراهيم عبدالعاطي أو ثالث اسمه أحمد البحيري فقد كانوا كتابًا أصحاب مواهب كبيرة لكن الظروف غير الصحية جعلتهم يتوقفون واحدًا بعد الآخر وبعض هؤلاء صدقوني أكبر موهبة، بل وثقافة، من كثير من الأسماء التي اشتهرت وراجت.
مشاركة :