على أن هناك تفسيراً آخر لهذه الظواهر السلوكية التي لا تنتمي إلى المدنية أو التهذيب بحال، وهي عينها ما تؤرخ له الدراما السورية المذكورة، وينضح به الأدب السوري خاصة في جانب ما يسمى بأدب المقاومة الذي أنتج في الحقبة عينها، إذ تغلب فيها الشخصية ذات الطباع الغليظة، المتصفة بالقسوة والعنف، والصخب في التعاطي، والشدة في المناولة، وهي صفات تتفق مع الظروف التي يعيشها الإنسان السوري في تلك الأثناء، وما كان يقوم به من نضال في سبيل الاستقلال. وهي في الجملة أحوال تناسب طباع الحرب العنيفة بما تفرضه من استنفار، واستعداد للخصام، وشراسة في الإقدام، واحتراس عند التعامل يقوم على الحفاظ على الذات، واعتماد الأساليب التي تعتمدها الحرب كالخديعة، والمكر، والغدر، والخيانة، واعتبار الآخرين أعداء ينبغي القضاء عليهم بكافة السبل. هذه الشخصية المحاربة، أو التي تنتج عن الحروب، على نحو أدق التي تنظر إلى الآخرين على قاعدة إما أن تكون معي أو ضدي، هي شخصية حقيقة وواقعة، لكنها لا تناسب الجوانب المختلفة للحياة المدنية التي تقوم على المحبة، والمجاملة، والتلطف، ولين الجانب، والتعاون، والتعايش، خاصة حين تكون قد مرت بتجارب قاسية في ذلك السبيل، وحين تكون قد مرت أجيال متتابعة على تلك الحالة حتى تصبح حياة الحرب والطعان، والغدر والقتال، والفجور والعصيان هي الحياة اليومية التي يعيشها أفراد المجتمع، فيشب فيها الصغير، ولا ينحاش عنها الكبير، وتتطاول عليها الأيام فلا يعرفون سواها، ما يجعلها سمة لازمة للمجتمع، ووصمة لا تزول، وهو ما يجعل بدوره التحول من هذه الحالة إلى حالة السلم، وما تفرضه من حياة طبيعية عمادها الأنس والأمن، والصفات السابقة أمراً عسيراً يتطلب كل ما تتطلبه عملية التحول من تعليم، وتدريب، وتهذيب، ومجاهدة وصبر وطول مران. وهي حالة تعانيها كثير من الأمم حين تتحول من حالة الحرب إلى حالة السلم، وتظهر لدى أبنائها المحاربين الذين كانوا في الثغور أو على الجبهات نافرين في الغزوات، كما قد سمعنا عن عقد نفسية يعاني منها بعض الجنود العائدين من الميادين، وتنفق لتفكيكها الجهود، والأموال، وتؤسس لأجلها النظريات والأقوال. وقد جاءت هذه المفارقة بين حياة الحرب ومتطلباتها، وحياة السلم ومواضعاتها في عدد من أفلام هوليود التي تصور شخصيات كانت قد مرت بتجارب قاسية إما لاشتراكها في بعض الحروب، أو لأنها كانت جزءاً من برنامج خاص تديره إحدى وكالات الأمن القومي، تتحول بعده إلى أداة للقتل غير صالحة للعيش خارج هذه الوظيفة وهذا البرنامج لما أصاب وعيها من عطب. ويحضرني في هذه الأثناء فلم «ريد» “Red” للمثل بوريس ويليس وجون مالكوفيتش، وهم عملاء استخبارات سابقين، تقرر الوكالة التخلص منهم في الوقت الذي كان كل واحد منهم يحاول أن يواصل حياته على طريقته الخاصة. الفلم من أفلام الإضحاك، وفي هذا السياق تظهر شخصية جون مالكوفيتش بوصفها إحدى الشخصيات المعطوبة نفسياً على إثر ما مرت به من تجارب قاسية، أصيبت نتيجة لذلك ب(بالبارانويا) أو ما يسمى بمرض الارتياب، حيث يشعر دائماً أنه ملاحق، وأنه في حالة تشبه حالته التي كان عليها إبان العمل بل أشد خطورة. تتجلى البارانويا، أول الأمر في الطريقة التي استقبل صديقه وزميله في العمل بوريس ويليس فيها، فقد كان متخفياً على جذع شجرة بلباس يستعمله المحاربون في أرض المعركة، ثم نزل إليه كما ينزل بعض المقاتلين إلى الميدان شاهراً سلاحه، مبدياً قلقله من أن يكون قادماً لقتله هو أو صاحبته، ثم في منزله الذي يسكنه، إذ يجده قد اتخذ سرداباً، جعله منزلاً سرياً يأوي إليه عند إحساسه بالخطر، يوصل إليه من خلال مدخل قد أخفي بسيارة عتيقة مهملة في الجزيرة التي يعيش فيها، ويحتفظ فيه بكل وسائل العيش وأنواعاً كثيرة من الأسلحة. وحين يخرجون إلى السوق لشراء بعض الحوائج، يرتاب من صديقة بوريس وهي تجري اتصالاً في الهاتف، فربما تخبر عنهم خاصة وهي تنظر إليهم بطرف عينها في أثناء حديثها، ويتابع طائرة تحلق فوقهم في مكبر الرؤية خوف أن تكون قادمة لقتلهم. هذه الريبة التي تبلغ ذروتها حين ينفجر مالكوفيتش على طريقتهم في ميدان المعركة، وينقض على امرأة كانت تسير خلفه في طريقهم إلى السيارة، ويقبضها قبضة قوية صائحاً بأنها تتعقبنا، إنها تحمل كمرة في حقيبتها، ثم يتساءل عمن تعمل لصالحهم، فيقول صاحبه بوريس وقد نثر ما في الحقيبة أرضاً: لا شيء في الحقيبة. اذهب إلى السيارة، وحاول ألا تقتل أحداً. هذه الصورة الكاريكاتورية لحالة العميل السابق التي تبعث الضحك في المشاهد، تعكس صورة واقعية ألهمت كاتب هذا الفلم ومخرجه على أقل تقدير، وهي عينها التي تعكسها الدراما السورية حيث تحيل إلى ذاكرة جمعية عن حالة يتسم بها المجتمع بالتوحش، والهمجية، والعنف والقسوة، ويعيش حالة حرب مع نفسه تشتد فيها الحياة وأسبابها، و تسود فيها شريعة الغاب، فلا يأمن الناس على أنفسهم أو متاعهم، ويشتد حرصهم على الحياة وشفقتهم عليها، ومشاحتهم على مادتها. هذا التوحش يصيب الأمم والمجتمعات كما يصيب الأفراد، ويختلف سببه من أمة إلى أخرى، فبعضها يكون سببه البداوة والجفاء، وبعضه يكون الطمع والجشع دون التقيد بقيد المدنية والحضارة، وبعضه يكون سببه شيوغ الخوف، والانخراط في حرب طائلة لا تبقي ولا تذر، تنعت نعوتاً مختلفة، فمرة حرب استقلال، ومرة حرب استنزاف، وثالثة حرب استقرار، ورابعة حرباً أهلية، يهلك معها الحرث والنسل، وينقطع الناس إليها، فلا يفرغون للعلم والدرس، فتأخذ بمجامع حياتهم، يعودون بعدها هملاً جفاة غلاظاً حراصاً، لا معارف لديهم أو علوم، وإذا كانت الدراما السورية تعكسه فإنه أيضاً يمكن أن يكون تفسيراً لما نشاهده من سلوكيات لا تمت إلى المدنية والتهذيب وأصول التعامل بين الأمم المتحضرة بسبيل.
مشاركة :