تتنفس الأشجار في "المرسى".. المدينة البحرية التي تبعد كيلومترات قليلة عن العاصمة تونس، تدفق طاقتها بكرم على الذين يدوّخهم سحر بيئة البحر المتوسط. لطالما فعلت ذلك ابتداء من القرن التاسع عشر مع أهلها والأجانب المستقرين فيها من البعثات الدبلوماسية والفنانين المفتونين بمناخها وجوها الاصطيافي. أشجار الصنوبر والسرو والزيتون، تروي جذوعها المنتشرة أمام البحر، سيرة شريط ساحلي عبر منه كل الغزاة وكل المنتصرين على مدى مراحل تاريخية مختلفة من سجلات تونس. تلك الجذوع ستلتف حولها قريباً إيقاعات حياة من نوع آخر: الموسيقى. ستتنفس فناً في شارع، رقصاً ونغمات: ريغي وجاز وروك وهيب هوب، ضمن فعالية "المرسى تتنفس فن" التي تنظمها جمعيات أهلية في المدينة بمناسبة اليوم العالمي للموسيقى ليوم واحد في 26 يونيو الجاري. سيهتز موج البحر وترتجف أطراف أوراق الشجر التاريخي الباسق ويتدفق فرح في الأنسغة والشرايين، على وقع الموسيقى، التي يكون لإيقاعها سحر خاص في فضاء المتوسط. ما بعد كورونا تشرح سعيدة بورقيبة التي تشرف على اللقاءات الثقافية ضمن الحدث عن خصوصية هذه المنطقة التي لطالما كانت المتنفس الرئيسي لأهالي العاصمة، وخاصة في شهور الصيف، إذ يرتادون شواطئها ويستمتعون بظلال غاباتها وأماكن الترفيه فيها فتقول: "هذا الحدث يتيح الفرصة مجدداً للفنانين للخروج من حالة الركود النفسي والاقتصادي التي تسببت بها مرحلة كورونا. لذلك يحمل عنواناً لافتاً يبين الحاجة إلى التنفس من جديد". تمتاز الفعالية بأنها تدمج بين روح الفن وروح الأماكن التاريخية ذات الروح المميزة في "المرسى"، مثل "مقهى الصفصاف" و"قصر السعادة" و"المقهى الثقافي لافورا" و"قبة الهواء" وغيرها.. وترتبط هذه الأماكن بذاكرة أهالي تونس وزوارها على مدى سنين وتسجل بطاقات سياحية صوراً لها على مدى حقبات مختلفة. تاريخ طويل ويأتي هذا النشاط ضمن الجهود التي تقوم بها جمعيات المرسى الأهلية للمساهمة في حماية الميزات العمرانية والأثرية لمدينة المرسى، إضافة إلى تنشيط المدينة وإبراز خصائصها التاريخية والمعالم الحضارية التي تتميز بها. وبحسب الباحث التاريخي محمد الوزان فإن الإشارات المحفوظة في السجلات القديمة إلى اسم مكان يحمل المرسى يعود بعضها إلى 900 سنة خلت، إذ ذكر البكري في القرن الحادي عشر للميلاد أنها "مرفأ ترسي فيه المراكب"، ومن أوائل نفس القرن تشير "مناقب الشيخ محرز ابن خلف" إلى أن ولي تونس كان يتردد على آثار قرطاج حيث كان يأتي للتأمل غير بعيد عن مرفأ يعرف بـ"مرسى الروم". كما نجد في نصوص أخرى تعود إلى العصور الوسطى المتأخرة فيها من يتحدث عن "مرسى قرطاجنة" وآخر يذكر "مرسى ابن عبدون" وآخر "مرسى ابن الجراح" وكلها تتموقع في نفس الجهة تقريباً. ويتساءل الوزان: فهل هي تشير إلى نفس المرفأ لكن بأسماء متغيرة من عهد إلى عهد؟ أم هي تشير إلى موانئ مختلفة؟ الأمر لا يزال غامضاً حسب معلوماتنا وهو يستحق البحث والتمحيص؟ ويقول د. عبد العزيز دولاتي في بحث بعنوان: "المرسى: التاريخ والتراث"، إنه في نهايات القرن التاسع عشر، وحين شهدت مدينة البايات (لقب الحكام في تونس) وهي "باردو"، بداية من سنة 1882، تلاشياً ملحوظاً إلى حد اندثار العديد من مبانيها، تحوّلت المرسى، على عكس ذلك، إلى مدينة مزدهرة تتوافر فيها جل المنشآت الضرورية: قشلة للعسكر، سوق، مسجد، فرن للخبز، حمام، إسطبل لتربية الخيول، فنادق، مقاهي فضلاً عن البيوت والقصور التي ما انفك يشيدها الأمراء وكبار رجالات الدولة والموظفون". استعادة مجددة وتستعيد فعالية "المرسى تتنفس فن" الإرث العريق لعلاقة المدينة بالمثقفين والفنانين، والتي شهدت ازدهاراً خاصاً مع بداية القرن الماضي، حيث أدى تنامي الحركة الثقافية والفنية والاجتماعية إلى أن "أصبحت بيوت كبار العلماء والمثقفين ملتقيات للعلم والأدب مثل الشيخ خليل بوحاجب المتزوج بالمثقفة والأديبة المصرية الأميرة نازلي، الذي استقبل ببيته الشيخ المصلح محمد عبده، ومثل الشيخ العالم المصلح الطاهر ابن عاشور، وابنه الفاضل ابن عاشور، والشيخ الطاهر العنابي، والشيخ بيرم الخامس"، بحسب ما يفيد دولاتي. ويضيف: "كما برز في رحابها كبار الرواد من الموسيقيين مثل عبد العزيز الجميل وعلي الرياحي ومن الفنانين التشكيليين: نور الدين الخياشي وغيرهم كثر". طباعة Email فيسبوك تويتر لينكدين Pin Interest Whats App
مشاركة :