قرن على عالم شديد التغير

  • 12/19/2015
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

في مثل هذه الأيام بين انقضاء عام واستقبال عام جديد، يكون قد مر قرن كامل على انهيار عالم قديم استمر تماسك القوى الدولية فيه قروناً أربعة ونيفاً، وولادة عالم جديد امتد على بقية القرن العشرين، وقسم في مطلع القرن الجديد، مما يضاهي أغزر مرحلة انتقالية في تشكل القوى المتناحرة في السياسة الدولية، وهي مرحلة شهدت من التحولات الدولية والسياسية كما في العلوم وإعادة تشكيل الخرائط الجغرافية السياسية، ما يعادل التغيرات التي حدثت في القرون العشرين التي مرت على تاريخ البشرية، وما عصف بالاستقرار النسبي الذي عاشت عليه البشرية جمعاء، على الأقل في القرون الخمسة التي سبقت الولادة الدرامية للقرن العشرين، في رحم الحرب العالمية الأولى. لقد نشبت في قلب هذا القرن الأخير حربان عالميتان، وحروب فرعية كثيرة، استعمل فيها من الأسلحة قدر ما استعملته البشرية في حروبها السابقة على مر قرون كثيرة، وسالت فيها الدماء وأزهقت من الأرواح البشرية، على قدر مجموع ما استخدم من أسلحة وأزهق من أرواح بشرية على مدى قرون طويلة ماضية. وبذلت البشرية مرتين على الأقل خلال هذا القرن الأخير، محاولة السيطرة على جموح المكتشفات العالمية المدمرة التي استخدمت في عالم الدمار، أكثر مما استخدمت في عالم البناء والإعمار وتطوير وتحسين الحياة البشرية. وكانت كتابات وتأملات الفلاسفة الأخلاقيون وراء ذلك السعي لإنشاء عصبة الأمم في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ومنظمة الأمم المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لكبح جماح التطور العلمي وحمايته من التدهور الأخلاقي، الذي حوله من قوة دافعة لسعادة الحياة البشرية، إلى قوة دافعة لويلات لم يعرف التاريخ البشري القديم مثيلا لقبحها وشراستها ووحشيتها. يكفي أن نذكر مثالا حيا صارخا على ذلك، استخدام الولايات المتحدة مرتين ضد اليابان، بعد نهاية القتال في الحرب العالمية الثانية، أخطر المكتشفات العلمية في عالم الذرة، الأمر الذي ما زالت اليابان تعاني آثاره حتى بعد مرور أكثر من نصف قرن. من أبرز المتغيرات السياسية في هذا القرن الأخير أن البشرية شهدت في مطلعه، في مثل هذه الأيام، ولادة الآيدلوجية الشيوعية، التي تكون على أساسها الاتحاد السوفييتي، مكوناً من العملاق الروسي، وكل ما جاوره من دول في قارتي آسيا وأوروبا، الأمر الذي قاد إلى ولادة المعسكر الشيوعي، الذي ولد وانهار في مدى القرن نفسه. لكن انهيار هذا الكيان المبني على الآيديولوجيا الشيوعية، لم يمنع الدولة الروسية عميقة الجذور في التاريخ، من إعادة النهوض ضمن تجمع سياسي جديد شديد الاختلاف، هو تجمع دول البريكس، الذي يعتبر أكثر تجمع سياسي يشهد ولادته في مطلع القرن الحادي والعشرين، من مجموعة دول بالغة النمو والحيوية السياسية والاقتصادية، الأمر الذي أوجد عناصر جديدة في هذه المرحلة الجديدة من الحياة الدولية. ولقد عرفت البشرية على مدى هذا القرن المنصرم في هذه الأيام، قضيتين عنصريتين، واحدة في جنوب إفريقيا، والثانية في فلسطين. لكن القضية الأكثر حداثة (إفريقيا الجنوبية)، شهدت ولادتها وحلها في المدى الزمني للقرن العشرين، أما القضية الثانية الخاصة بنا، فقد أثبتت أنها أشد تعقيداً، وأنها لا تخص فلسطين وحدها (وإلا كانت عرفت حلاً لها حتى الآن) بل تخص مخططات القوى الدولية الغربية في العبث الدائم بطبيعة الخرائط الجغرافية - السياسية، في هذه المنطقة في قلب العالم القديم، الأمر الذي أوجد في منتصف القرن العشرين معضلة الإحلال بالقوة المفتعلة للكيان الصهيوني، في وسط المنطقة العربية، بين مشرقها ومغربها، وفي تجاهل لا أخلاقي ولا إنساني للمصير المأساوي للعرب من سكان فلسطين الأصليين، الذين ترحلت مأساتهم من القرن المنصرم، إلى القرن الجديد، دون أن يبدو حتى الآن أي أفق سياسي أو إنساني أو أخلاقي للحل، رغم صدور عدة قرارات ظالمة تخص القضية في منظمة الأمم المتحدة، ولكن حتى هذه القرارات الظالمة، لم ينفذ شيء منها. لقد دخلت البشرية لسنوات انتقالية قصيرة بين القرنين الأخيرين، تجربة تفرد الولايات المتحدة باحتكار النفوذ الدولي، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لكن الرئيس الأمريكي المتهور جورج بوش الابن، عجل في نهاية هذه الحقبة القصيرة من الحياة الدولية، في حرب دخول العراق عسكرياً، لاحتلاله وتدميره. إننا نعيش الآن بداية مرحلة انتقالية جديدة ستنتهي من غير شك على توازنات جديدة، لعلها تشهد الصحوة العربية المؤجلة من قرن إلى قرن، بما يجلب الحل العادل والتاريخي لمأساة فلسطين، ومأساة العرب.

مشاركة :