أصبح العالم اليوم في أمس الحاجة إلى إحياء التصوف في الأديان السماوية "اليهودية والمسيحية والإسلام" ضد السيطرة المادية والنزعات الأليمة التي تمزق المجتمع البشري في كل أنحاء العالم، وما نعيشه من تعنت وتشدد وصدامات وحشية بين أصحاب كل دين وملة، وذلك لكون قيمه وسلوكياته الروحية تنقي وترقى وتسمو بالأخلاق الإنسانية وتروي ظمأ الروح وتضيء الظلام النفسي ويجدد الخراب الوجداني، بعد أن أصبح الدين مجرد طقوس لا روح فيها ولا خضوع ولا نبض. وهذا الكتاب "التصوف في الأديان السماوية" للباحث عمرو يس، يستهدف التعريف بمفهوم التصوف في الأديان السماوية والأدوار التي مر بها، وأهم الأفكار والمعتقدات الصوفية في هذه الأديان، ومدى تأثرها بالثقافات السابقة وما هي مصادر هذه الأفكار ومن هم أبرز رجال التصوف الديني في العصر الحديث، وما هي أوجه الاتفاق والاختلاف بينها، وما هي أهمية التصوف في العصر الحديث. يدخل الكتاب الصادر عن دار اكتب ضمن الدراسات المقارنة بين اليهودية والمسيحية والإسلام، وبيان موقف الفلسفة الروحية في الأديان السماوية، والمقصود بالخطاب الصوفي هنا هو ما يقدمه التصوف من حجج وبراهين مقنعة تجذب المريد إلى الإلتزام بالسلوكيات القيم الروحية الصوفية. يرى يس أنه بعد أن كانت القيم الإنسانية هي صمام الأمان، والداعمة الثابتة لمسيرة البشرية، أصبحت في المجتمع المعولم شيء من الوهم، وأصبح الفرد بلا مرجعية أخلاقية؛ لا يتمسك إلا بما يرضي ذاته مما يسوق إليه من الداخل والخارج وإن كان مخالفا للقيم الأخلاقية والدينية، مما أدى إلى التطرف في الدين، والانحراف عن الخلق القويم، بعد أن أصبح الإنسان آلة تحت رحمة الإعلام التسويقي، الذي يعمل على تدمير القيم الخلقية والدينية الأساسية لدى الإنسان مما جعل من الواجب على كل دين أن يعمل على استعادة وإحياء القيم الروحية والأخلاقية فيها لإنقاذ البشرية من متاهة العولمة. ولما كان التصوف في الأديان السماوية يمثل الكمال الإنساني والإنسان الكامل الذي يقول عنه الكتاب المقدس "صورة الله" و"ربانيا" كما يقول القرآن الكريم، فإن التصوف الديني بإمكان أن يقدم بعض الحلول لمواجهة المشكلات المادية التي تعمل على هدم القيم الروحية ومن ذلك إقامة حوار روحي عالمي، وتفعيل مبدأ العدالة عالميا. ويتابع أنه على التصوف في كل الأديان السماوية، وخصوصا وقتنا الحاضر أن يلتزم بالعمل الجاد من أجل تفعيل مبدأ العدالة العالمية على كافة المستويات ليكون صمام أمان لحقوق وكرامة الإنسان العالمي، عاملا على تحقيق إنسانية هذا الإنسان المعاصر، أو بمعنى أدق العمل على تحقيق إنسانيته التي أصابها الشيء الكثير من الخلاق، والأوباء النفسية التي تلعب على أوتار الإنسانية، فالله العدل لا يرضى في أرضه إلا بالعدل ولا يحب الظلم ولا يرتضيه لخلقه، فتفعيل مبدأ العدالة العالمية أصبح بلا شك إحدى المتطلبات الأكثر إلحاحا وضرورة لإنسانيتنا المعاصرة. والتصوف الديني السماوي الحق قادر على إعادة إحياء المجتمع الإنساني من جديد بالعمل على بث التعاليم الروحية والسلوكيات العلمية فيه. يؤكد يس أن الفسلفة الروحية كان لها أثر بالغ في تشكيل العقلية الفكرية في كل الدينات الوضعية، وقد ظهر هذا بوضوح في الفلسفاات الدينية القومية "مصر ـ بابل ـ اليونان" والعالمية كالبوذية والفارسية كالزرادشتية، والهندية كالهندوكية، متمثلا في فكرة النزاع بين الخير والشر، والبحث عن الحياة الخالدة "النرفانا" أو مجاورة آلهة الخير كأزوريس، وممارسة طقوس الزهد والتقشف من أجل الخلاص. ويشير إلى أن الديانة اليهودية لم تبد ميلا للتصوف، ولكن كانت البداية تأملات في التلمود والكتاب المقدس كرياضة روحية،ولكن ما حدث لهم من اضطهاد ديني وتشريد في الأرض جعلهم يبحثون عن منفس روحي أو شماعة يعلقون عليها آمال الخلاص من الاضطهاد، فظهر في الأجواء اليهودية من يبحثون عن الحكمة الخفية والعلوم الباطنية من خلال أسرار القبالاه ليتمكنوا من الدخول في الحضرة الإلهية، والقبالاه هي مجموعة من التفسيرات والتأويلات الباطنية الصوفية لنصوص العهد القديم عند اليهود، وقد أطلق العارفون بأسرار القبالاه على أنفسهم لقب "العارفون بالفيض الرباني". وقد وجدت التعاليم القبالية رواجا في الأوساط اليهودية لأن لها تفسيرات بسيطة للشعائر والأوامر والنواهي، وقريبة من أفهام العامة، ولإحتوائها على الأساطير والخرافات التي أشبعت الظمأ الروحي عند اليهود، وقد كان هؤلاء المتصوفة اليهود يهدفون إلى تجديد تقاليد النبوة، وإلى الكشف الإلهي من خلال الشطحات الصوفية ومن خلال التأمل في حروف الكتاب المقد وقيمها العددية، وأسماء الألهة ومن أبرز القبالاه أبراهام شموئيل أبوالعافية "1240م ـ 1291م". ويزعم أتباع القبالاه أن عددهم 22 مليون كما أنه ليس كل القبالاه من اليهود ولكنهم يقدمون الدعم المطلوب لليهود. ويوضح أن القبالاه ترتبط بعدد من العلوم السحرية مثل التنجيم والسيمياء والفراسة وقراءة الكف وعمل الأحجبة وتحضير الأرواح. وفي العصر الحديث ظهر الكثير من المسحاء الكذابين الذين ادعوا أن بإمكانهم خلاص شعب إسرائيل وكان آخرهم الصهيونية. وعمل بعضهم على تطوير الفكر الصوفي وتأويلاته لخدمة الصهيونية من أجل تحقيق السيادة لشعب إسرائيل، مدعين أن هذا العصر هو عصر الخلاص، وأن الصهيونية هي المخلص الوحيد لهم، وترتب على ذلك تبرير كل الانتهاكات الصهيونية تبريرا دينيا وإلباس الاستعمار الصهيوني لفلسطين لباس القداسة. ويرى أن التصوف في المفهوم المسيحي هو حال أو اختيار حياتي مباشر لله والأمور الإلهية عن طريقة المعرفة والمحبة بتأثير خاص من الروح القدس، والمقصود بالرهبنة في التراث الصوفي المسيحي هي طريقة المعيشة المنعزلة عن الناس، وفي خلوة تامة بقصد العبادة وقوامها التبتل والتعبد في البراري واعتزال العالم، في حياة الزهد والفقر الاختياري، وقد كان أول ظهور لها في مصر. ونستطيع أننقول أن العامل الأساسي في ظهور الرهبنة في الأجواء المسيحية سلسلة الاضطهادات التي كان يصبها الأباطرة والحكام الرومان على المسيحيين من رعاياهم. ويتابع يس أنه لما كان الرهبان الذين اختاروا العزلة في البراري فريسة للحيوانات الضارية وقطاع الطرق، ظهر النظام الأنطواني أو الرهبنة الأنطوانية نسبة للأبنا أنطونيوس، وهو نظام المعيشة تحت رعاية أب روحي للرهبان، ولكن دون منهج روحي أو قواعد مكتبوبة، لكن ظهور الأنبا باخوم وتأسيسه لأول مرة دير في المسيحية لممارسة حياة الرهبانية، وإدعائه أنه تلقى منهج روحي مكتوب من ملاك الرب جذب كثير من الرهبان إلى المعيشة في حياة ديرية آمنة تحكم بقوانين ونظم ثابتة. ويلاحظ أن المصادر الدينية الأساسية لم تكن هي المصادر الفكرية في الفلسفة الصوفية في اليهودية والمسيحية، ولكن كان هناك بعض المؤلفات التي تمثل العامل الأساسي في الفكر الصوفي كالزوهار في اليهودية وحياة الأنبا باخوم في المسيحية، التي تأثر مؤلفوها بالثقافات الدينية السابقة، نتج عن ذلك ظهور أثر واضح للديانات الوضعية والفلسفات الدينية السابقة في التصوف اليهودي والمسيحي. ويقول يس أن التصوف الإسلامي بدأ مؤسسا على الكتاب والسنة وأخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، حيث ظهر على كثير من الصحابة الكرام ميلهم للزهد والتبتل والإعراض عن حطام الدنيا الزائل، لكنهم لم يتسموا باسم، ولم ينتموا لجماعة بعينها، إذ لا خير في جماعة ولا تسمية أشرف من كونهم أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لكن مع ظهور البدع والفرق وإدعاء كل فرقة أن فيهم زهاد وعباد، عرف هؤلاء الأكابر باسم الصوفية. وقد كان للإمام الغزالي فضل كبير في تثبيت "عالم التصوف السني"، حيث كان لا يقبل من التصوف إلا ما كان متماشيا مع الكتاب والسنة، راميا إلى الزهد والتقشف وتهذيب النفس وإصلاح أخلاقها، ووبعظم شخصية الإمام الغزالي، وظهور صوفية كبار كأبي الحسن الشاذلي والرفاعي كونوا لأنفسهم طرقا لتربية المريدين، بدأ نفوذ التصوف يزداد في العالم الإسلامي. ويؤكد أن هناك فرقا شاسعا بين المتصوف والمستصوف، إذ المتصوف الحق هو من التزم بالكتاب والسنة في أخلاقه وسلوكياته، أما المستصوف الدعي يمارس بعض السلوكيات التي تتشابه مع سلوكيات السادة الصوفية لكنه في الأصل إما جاهل بحقيقة التصوف أو دعي يلتصق بالقوم أينما حلوا لينتفع بمنفعة دنيوية من ورائهم، وبجهله أو انحرافه يتسبب في إلصاق التهم بالسادة الصوفية. ويستمد التصوف الإسلامي السني مادته وتعاليمه وسلوكياته من المصادر الإسلامية النقية المتمثلة بالكتاب والسنة، وأقول الصحابة رضي الله عنهم. ويخلص يس إلى أن أوجه الاتفاق في التصوف الديني، تفوق أوجه الاختلاف، مما يوجب على أتباع التصوف الديني في الدينات السماوية إقامة حوارات روحية الهدف منها الحد من المادية الإلحادية التي تنهش في الأديان السماوية، والعمل على بث التعاليم الروحية والسلوكيات في المجتمعات الإنانية للحد من ظاهرة التردي الأخلاقي، والعمل على إقامة مجتمع عالمي تحكمه تعاليم روحية سلوكية وقوانين أخلاقية دينية. يجب على أتباع الديانات المختلفة تفعيل مبدأ العدالة العالمية في مجتمعاتهم، للحد من ظاهرة الانتهاكات الواقعة على الغير، والعمل على إقامة علاقات دولية يحكمها مبدأ العدل. إن التصوف في العصر الحديث يعد بمثابة إكسير الحياة للمجتمعات التي أصابها موات أخلاقي، لذا وجب على أتباع الديانات السماوية تصحيح مسار مسيرتهم الصوفية والعمل على جعل السلوكيات الخلقية مبادئ حياتية.
مشاركة :