في أدبياتنا الإسلامية مُرِّر عدد من الحوادث التاريخية من دون تأمل في ظروفه واستقلالية رواته وتحول مع مرور الزمن إلى قضايا استدلالية نبني عليها تصوراتنا المعاصرة ومواقفنا الحالية، الأمر نفسه يتكرر مع عدد من المفاهيم التي تم صوغها وفق ظروف تاريخية وإملاءات سياسية أو اجتماعية، ومع تقادم الزمن عليها وتتابع الأجيال في تداولها تحولت إلى مسلّمات قطعية، بل كتل صلدة من المعاني المجتمعة لا تقبل التفكيك أو المراجعة، وحينما نتأمل واقعنا نجد أن تلك المفاهيم هي التي تشكّل لنا تحدياً، وأحياناً تصادماً يقتضي انهزام أحد الطرفين ، إما طرف صلاحية الشريعة ومواكبتها الحاضرَ وإما القبول بتلك المفاهيم والعودة معها إلى الماضي، وفي عصور الضعف والتقليد غالباً ما تنتصر تلك القوالب الفكرية العتيقة، ونصبح كمن يجلب له حصاناً يتنقل به في المدن العصرية لقضاء حاجاته اليومية، وحتى لا أطيل في سرد حيثيات فكرة المقال أضرب على ذلك أمثلة، على رغم أن المثال غالباً ما يختزل الفكرة وتنغمر فيه، ولكن الحاجة ماسة هنا إلى التمثيل ببعض تلك المفاهيم التي لم تأخذ حظها من التفكيك والمراجعة، بعضها قديم الوضع مضت عليه قرون وبعضها قريب، ومنها: مفهوم الأمة والخلافة والحاكمية والجهاد والولاء والبراء والإرهاب والديموقراطية والحداثة والعلمانية وغيرها، ولعلي أتناول مفهوم العلمانية بشيء من البيان، كونه وُلِد في رحم بيئة مختلفة وظروف متباينة وفق أدبيات متعددة ونُقل إلينا بصورة مستعجلة وتمكّن بقوة السلاح وإرهاب المستعمر، وأصبح هذا المفهوم بعد ذلك حجراً صلداً يُرمى به على أقوامٍ وقطعة من الذهب يكتنزه أقوام، وبناءً على ذلك السياق جاء الموقف الديني من العلمانية في غالبه موقف مُجرَّم والعلمانيون أعداءٌ للدين والملّة، ويمكن من خلال المسائل الآتية أن أعرض بعض المراجعات حول هذا المفهوم، كما يأتي: أولاً: خرج عدد من الفتاوى والقرارات الفقهية التي حكمت على العلمانية بالكفر الصريح والخروج التام عن الدين وأنها وصيف الإلحاد، ومن ذلك ما جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي بجده في دورته الحادية عشرة ما نصه: «إن العلمانية نظام وضعيّ يقومُ على أساسٍ من الإلحادِ يُناقض الإسلامَ في جملته وتفصيله، وتلتقي مع الصهيونية العالمية والدّعوات الإباحيّة والهدّامة، لهذا فهِي مذهب إلحاديّ يأباه الله ورسوله والمؤمنون». (قرار رقم: 99 (2/ 11) مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة التعاون الإسلامي، العدد الحادي عشر، 3/ 259). وجاء في قرار هيئة كبار العلماء بالسعودية ما نصه: «ما يسمَّى العلمانية التي هي دعوةٌ إلى فَصل الدينِ عن الدَّولَة، والاكتفاءِ مِن الدين بأمور العِبادات، وتركِ ما سوى ذلك من المعاملات وغيرها، والاعترافِ بما يُسمى الحرية الدينية، فمن أرادَ أن يدين بالإسلام فَعَل، ومن أراد أن يرتدّ فيسلك غيره من المذاهب والنّحَل الباطلة فعَل، فهذهِ وغيرُها من معتقداتِها الفاسدةِ دعوة فاجرة كافرة يجب التحذير مِنها وكشف زيفِها، وبيان خطرها والحذر مما يُلبِسُها به مَن فتنوا بها» (انظر: فتاوى اللجنة الدائمة، المجموعة الثانية، جمع وترتيب: أحمد بن عبدالرزاق الدويش، الرياض، 1426هـ، الطبعة الأولى 2/ 143 - 144). ولكثير من علماء العقيدة فتاوى متداولة، فيها شبه اتفاق على أن العلمانية كفر، باعتبار أنها في وجهة نظرهم «فصل الدّين عن الدّولة، وأن الدين في المساجِد فقط، وأمّا في المعامَلات وفي الحكم فليس للدِّين دخل، وأن الذي يعتقد هذا الاعتقاد كافر وملحد» (انظر: عقيدة التوحيد للشيخ صالح الفوزان، طبعة المكتبة العصرية، ص 82، كتاب العلمانية نشأتها وتطورها، للشيخ سفر الحوالي، مكتبة مكة، الطبعة الأولى 1402هـ). يظهر من تلك الأحكام القاطعة أن الرأي الشرعي يكاد يجزم بكفر العلمانية، وإن كانت هناك آراء فقهية تفصّل في الحكم عليها، كما أن هناك من يرى خطأ تكفيرها، لكن الصوت السلفي هو الأعلى في بيان حكم كفرها، وغالب من يكفر العلمانية يعتمد على أصلين كونها تمنع الشريعة من التطبيق وتنازع الله تعالى في حاكميته، وقد قال الشيخ سفر الحوالي في توصيفه للعلمانية: «وانطلاقاً من هذا المفهوم نستطيع أن نرى حكم الله في العلمانية بسهولة ووضوح وأنها باختصار: نظام طاغوتي جاهلي يتنافى مع لا إله إلا الله من ناحيتين أساسيتين متلازمتين: أولاً: من ناحية كونها حكماً بغير ما أنزل الله. ثانياً: من ناحية كونها شركاً في عبادة الله» (العلمانية 2/ 80). وهنا مكمن السؤال في مدى انطباق العلمانية على ما سبق ذكره من توصيف، ثم مدى انطباق الحكم بالكفر على هذا التوصيف، وهذا يقتضي الرجوع إلى حقيقة العلمانية التي تعتبر من أكثر المصطلحات المثيرة للجدل في الوقت الراهن حيث اختلط التعريف النظري مع التحقق الفعلي للمصطلح، ما أدى إلى ظهور إشكالية العلمانية، بشقيها النظري والعملي، سواء في العالم العربي أو العالم الغربي. ويرى الدكتور عبدالوهاب المسيري في كتابه (العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، دار الشروق، القاهرة 1/ 220) أن مصطلح العلمانية قد شابه الغموض والإبهام من كثرة تضارب التعريفات التي تعرّض لهذا المفهوم. فعلى الصعيد الغربي، يعرّف قاموس أكسفورد مصطلح (علماني) أو secular على مستويات عدة، أولاً، على المستوى الجزئي: بمعنى ينتمي للحياة الدنيا وأمورها أي غير كهنوتي، أو غير مرتبط برجال الدين، وكانت الكلمة تشير أيضاً إلى الأدب والفنون غير المنتمية إلى خدمة الدين، كما أن كلمة secular building تستخدم للإشارة إلى «المباني غير المكرسة للأغراض الدينية»، وثانياً، على المستوى الكلي: بمعنى ما ينتمي إلى هذا العالم «الآني الزمني» كمضاد «للروحي» تُعرَّف العلمانية «بأنها العقيدة التي تذهب إلى أن الأخلاق لا بد أن تكون لمصلحة البشر في هذه الحياة واستبعاد كل الاعتبارات الأخرى المستمدة من الإيمان بالإله أو الآخرة»، أما التعريف الشائع للعلمانية بأنها فصل الدين عن الدولة أوSeparation of church and state فيرى المسيري أنه يقع ضمن التعريفات الوردية للعلمانية التي حددت مفهوماً للعلمانية ينحصر تطبيقه في الدائرة السياسية وفصل المؤسسات الكهنوتية عن مؤسسات صنع القرار، ويعتقد المسيري بأن هذا التعريف للعلمانية هو تعريف قاصر عن الإحاطة بمدلوله. ومع أن المسيري اختار الفصل بين نوعين من العلمانية، وافق على الجانب الجزئي منها، وخالف في الجانب الشمولي الذي يغوّل المادة ويزيد من سيطرتها على الإنسان، على اعتبار حالة توصيفية للمجتمعات الغربية يعتقدها، تحولت هذه النظرة التشاؤمية الخاصة للواقع الغربي بما فيه من وحشية الرأسمالية إلى حالة تنظيرية سماها بالعلمانية الشاملة، وهناك مناقشات طويلة أنتجها هذا التقسيم المسيري لا داعي للإطالة في عرضها. ثانياً: لا بد من معرفة مناط الحكم الذي جعل العلماء يكفّرون العلماني ويجعلونه ملحداً، والحكم هنا هو الكفر، وليس الفسق أو الابتداع، بمعنى أنه أعظم الأحكام الدينية خطورة، لأنه يخرج المؤمن من دائرة الإسلام، وتلحقه تبعات حكمية من فراق زوجته وحرمة إرثه وعدم الصلاة عليه وغيرها، ولذلك لا بد من أن يكون المناط واضحاً وجلياً، ولا يقبل التأويل في معناه، ومناط الحكم وعلته مستند إلى توصيف العلمانية بأنها فصل الدين عن الدولة، وهذا المعنى – كما مرّ - مضطرب وغير واضح في دلالته على مقصود العلمانية عند واضعيه، وغير متداول في تطبيقه عند مشرّعيه، فالمفكرون الغرب يتباينون ولا يزالون يتناولون هذا المصطلح بالفحص والنقد وأبرزهم في الآونة الأخيرة أطروحات هابرماس وتشارلز تايلور حول العلمانية والمجال الديني، والدول العلمانية اليوم ليست سواء، فالسوفيات كانت لهم علمانيتهم والنازيون كذلك، كما أن علمانية الفرنسيين بعد الثورة تختلف عن علمانيتهم الكولونيالية، وتركيا العلمانية في عهد أتاتورك ليست كما هي في عهد علمانية العدالة والتنمية، فاختزال الحكم القطعي بالكفر وفق معنى مضطرب وواقع متعدد، يقتضي أن يتورع علماء الشريعة من إطلاقه إلا وفق شروط عتيدة لا بد من توافرها وموانع غليظة لا بد من انتفائها. ثالثاً: من الضروري في الاستدلال اعتبار العوارض المؤثرة في الحكم سواء كانت في الدليل ذاته، أو مؤثرة في تنزيل الدليل على الواقعة، وفي هذه المسألة الكثير من العوارض التي يجب التنبه لها عند الحكم المطلق على العلمانية بالكفر من دون تفريق بين كون المسألة دائرة بين العَقَدي الغيبي الحتمي (وغالباً ما يكون في دائرة الأفراد) وبين الفقهي الاجتهادي العملي (وغالباً ما يكون ظاهراً في الحياة المدنية) ومجاله السعة وتعدد الآراء، ومحاولة جعل العلمانية حكماً بغير ما أنزل الله تعالى أو شركاً في عبادته، يحتاج إلى تفصيل دقيق، يفرّق بين القادر وغير القادر، والعالم وغير العالم، والمكره وغير المكره، والغالبية المسلمة والأقلية، ثم هل كل القوانين المدنية التي تضعها المجالس التشريعية العلمانية كفر وصدام للدين أم إن أكثرها من القضايا الحياتية التي تمليها مصالح الناس «وهم الأعلم بأمور دنياهم»، وغالب الأمم العلمانية مع دعوتها إلى الحرية إلا أنها لا تصادر اختيار الأمة لتشريعاتها والإطار الأخلاقي لها، وقد كان الدين حاضراً في أشكال مختلفة في أعرق العلمانيات المعاصرة من دون محاربته، وهذا ينفي فكرة التلازم بين الإلحاد والعلمانية التي روجها الكثير من المفتين، وأشير هنا إلى دراسة الدكتور أحمد كورو (العلمانية. وسياسات الدولة تجاه الدين، ترجمة ندى السيد، الطبعة الأولى 2012، الشبكة العربية للأبحاث والنشر) وهي دراسة مهمة تبين أن البعد الديني حاضر في سياسات الكثير من الدول العلمانية، بنسب وتعاطي مختلف، وعنيت الدراسة بثلاث دول هي: الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وتركيا، أما الشعوب الإسلامية التي حُكمت بالعلمانية فليس من الصحيح الحكم عليها بالكفر ولو من حيث الأوصاف، فالمستعمر الغربي فرضه عليها وجعل بعض اللادينيين سدنة لهذه النظم، والرضا بها لأجل التغيير لا يعني الرضا بالكفر الذي يطلقه البعض على هذه الأنظمة، حتى لو اختلفنا في أيهما نبدأ بإصلاح الأمة أولاً أو إصلاح الدولة، فالأمور على القدرة حتى لو كان هناك علم بعدم جواز الفعل مثل بيع الخمور والربا، وقديماً التمس ابن تيمية العذر للنجاشي فقال: «خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فصفهم صفوفاً وصلى بهم صلاة الجنازة مع أن النجاشي لم يكن دخل في أكثر شرائع الإسلام، فلم يهاجر، ولم يجاهد، ولم يحج، بل قد روي أنه لم يكن يصلى، ولا صام، ولا زكّى، لأن ذلك كله كان يظهر عند قومه فينكرونه، ولا تمكنه مخالفتهم، ومعلوم قطعاً أنه لم يكن يحكم بين قومه بما أنزل الله خوفاً منهم لأنهم لا يقرونه على ذلك» (منهاج السنة، تحقيق محمد رشاد، طبعة جامعة الإمام، 5/ 112). رابعاً: هل العلمانية الكافرة – كما يسميها بعض العلماء - سبب للخراب والانحلال والفجور؟ أم إن أذرعتها الليبرالية الفكرية والديموقراطية السياسية قد تكون في بعض الدول ذات الشعوب الإسلامية، سبباً لمدافعة الأحزاب الناقمة على الإسلام، ومقاومة لها من خلال حرية المشاركة السياسية والتعبير عن الرأي؟ وفصل الدين عن الدولة في مثل هذه الحالات هو لمصلحة الدين بامتياز، وإلا كانت هيمنة تلك الدول على المجال العام تقييداً للحريات وتدخلاً في الأخلاق الشخصية وتحكّماً في الضمير الفردي، كما أن العلمانية التي لا تتدخل في المجال الديني وتهتم بالسياسة وفق تشريعات عرفية وأخلاقية قد تكون المخرج الصحي لأزمات الدول ذات الطابع التعددي كلبنان والهند وعدد من الدول الأفريقية. وقبل الختام... ينبغي التذكير بأن إثارة هذا الموضوع ليس دفاعاً عن العلمانية أو تمريراً لأفكارها، خصوصاً بعدما أصبحت في بعض المجتمعات أداةً انتهازية ومعقلاً لعبيد الرأسمالية، بل الغرض من ذلك محاولة إعادة النظر في مفهوم العلمانية وتفكيك الأغلوطات المنهجية التي اكتنفت معناه وإسقاطاته خلال العقود الماضية، مع الحاجة إلى إعادة النظر في الفتاوى والخطاب الديني الذي جعل هذه المسألة مصيرية وقضية مفاصلة لا تقبل المهادنة، كما أن من الضروري حماية المجتمع المسلم في تلك الدول العلمانية من هجمات المكفّرين أو استغلال المحرضين بسبب انتمائهم إلى دولة علمانية، وتجفيف منابع الاستغلال العاطفي الذي يقع ضحيته الشباب عندما يكفرون مجتمعاتهم ويرفعون السيف على أوطانهم بسبب خطاب المغالاة في خطر العلمانية وكفرها (كما يفعل «داعش» على سبيل المثل)، وسيبقى هناك من يحاول توظيف هذا النقد في شكل سلبي ويصنفه في خانة أعداء الأمة، وهذا إن حصل فإنه لا يبرر توقف النقد ومعاودة التفكير لتلك المفاهيم، على رغم كمية الألغام التي تكتنف هذا النوع من المراجعات.
مشاركة :