كان الرسام الإسباني بابلو بيكاسو (1881 – 1973) مولعا برسام عصر النهضة إل جريكو وهو شغف معروف إذ أنه كان مصدر إلهام لكثير من أعماله الأولى خاصة من الفترة الزرقاء، وهو ما يبينه معرض جديد ينشئ حوارا بين أعمال الرسامين التي يفصل بينها أكثر من ثلاثة قرون. ولا يخفى تأثر بيكاسو الكبير بالرسام النهضوي إل جريكو الذي يعتبر واحدا من رموز الحركة التشكيلية العالمية، ويرى كثير من النقاد أن أعمال هذا الفنان، الذي كان موزعا بين الرسم والنحت والفن المعماري، حملت بذور التعبيرية، بما تعنيه من ميل إلى الذاتية المفرطة، ونبذ للعوالم المرئية الوضعية والانطباعية والواقعية التي تصوّر الفيغرات والموضوعات، كما هي عليه في العالم الحقيقي، من دون أن تجنح إلى الجانبين الخيالي أو الرومانسي، وهما ركنان أساسيان من أركان أي عمل فني. حوار بين اللوحات يتناول معرض جديد يقام حاليا في متحف بازل للفنون “منظورا جديدا” بشأن هذا التأثر، ولكن يركز الضوء أيضا على إبداعات بيكاسو اللاحقة. وبحسب القائمين على المعرض، فإن أثر إل جريكو المولود في جزيرة كريت (1541 – 1614) واضح أيضا في أعمال الرسام الإسباني اللاحقة، حتى لوحاته التكعيبية وما بعدها. ويستمر المعرض المقام في سويسرا والذي افتُتح أوائل يونيو، حتى الخامس والعشرين من سبتمبر، ويعرض نحو 30 عملا للرسامين، حيث وضع مجموعات المتحف وأخرى مستعارة من مختلف أنحاء العالم جنبا إلى جنب لتتبع ثانية “حوارهما وهو إحدى أكثر الثنائيات سحرا في تاريخ الفن”. حصل إل جريكو على اسم دومينيكوس تيوتوكوبولوس عند الميلاد في جزيرة كريت. وعمل أولا في فينيسيا وروما قبل أن يصل إلى إسبانيا في وقت لاحق من سبعينيات القرن السادس عشر. وفي حين أنه حصل على سمعة جيدة لعمله خلال حياته، فقد نُسي الرسام سريعا بعد وفاته. وتطور إل جريكو إلى فنان فريد من نوعه لدرجة أنه لا ينتمي إلى مدرسة تقليدية، ورغم أن أسلوبه الدرامي والتعبيري قوبل بالحيرة من قبل معاصريه لكنه اكتسب تقديرًا جديدًا في القرن العشرين. ويعتبر عبدالرحمن حبيب أن إل جريكو كان غالبًا ما يعتمد ضربات فرشاة واسعة ومرئية بوضوح، لأشكال ذات ألوان مخففة وكأنها تومض مثل الشموع في مهب الريح. وعلاوة على ذلك، فغالبا ما نبذ اللون الطبيعي وأضاف لونا مزرقا على الجسد، وليس من المستغرب إذن معرفة أنه في حين حيرت أعمال إل جريكو بعض زملائه، كان له تأثير كبير على الرسامين المعاصرين مثل بيكاسو. التأثر ضرورة استعادة الماضي بروح أخرى ◙ استعادة الماضي بروح أخرى بحسب القائمين على المعرض، ساعد بيكاسو الشاب واهتمامه بإل جريكو في إثارة الاهتمام مجددا برسام عصر النهضة عند بداية القرن العشرين. لا شك أن بيكاسو من أغزر فناني القرن العشرين إنتاجا، وبحسب تقديرات الخبراء، فقد أنجز الفنان على مدار ستة عقود من مشواره الفني ما يزيد عن 20 ألف لوحة واسكتش، دون احتساب أعمال الخزف والحفر (الغرافيك) والكولاج والنحت، وفنون إعادة التدوير، وهي أعمال تملأ في مجملها العديد من المتاحف. والولع بأعمال بيكاسو لا يرجع فقط إلى كثرتها، حيث يوضح حفيده برنارد رويث من زوجته الأولى، روسية الأصل، أولغا، سببا آخر لاستمرار نجاح أعمال بيكاسو وشهرته العالمية، مشيرا إلى أن الفنان الإسباني أصبحت أعماله جزءا من ثقافة العالم أجمع، كما تعد وسيلة هامة لفهم تطور تاريخ الفن عبر القرن العشرين. بيكاسو نفسه اعترف بتأثره بإل جريكو واستعاد حتى بعض تفاصيل لوحاته خاصة في مرحلة شبابه والمرحلة الزرقاء ويعتبر بيكاسو من أهم فناني الحداثة، معه تغيرت فكرة الجمال وآلية التذوق، وتأسست نزعات فنية جديدة بداية من مدرسته التكعيبية، لكن بعيدا عن أهميته التي لا اختلاف بشأنها، فقد باتت تشبه المقدسات التي تصل بالبعض إلى حد منع نقدها. فقد تأثر الفنان العالمي بالكثير من الفنانين الآخرين والفنون السابقة. وإن اعترف بيكاسو بتأثره بإل جريكو واستعاد حتى بعض تفاصيل لوحاته، خاصة في مرحلة شبابه، فإن تأثره بالفن الزنجي الأفريقي ظل ضبابيا، بينما لم يذكر مطلقا تأثره بالفن العربي وطرق زخرفه، خاصة وأن مسقط رأسه مالقة تعج بآثار المعمار العربية التي استلهم منها الفنان. وتؤكد تجربة الفنان العالمي مبدأ التأثر وضرورة الاطلاع على الفنون السابقة لتكوين بصمة خاصة، وهو ما نجح فيه بشكل استثنائي ليصعد إلى مصاف كبار الرسامين على مر العصور.
مشاركة :