قلب سعيد الحمد الكبير النابض عشقًا للبحرين قد توقف فجأة معلنًا نهاية مسيرة مفعمة بعطاء غزير لعمله ووطنه من يدلنا على مكان في هذا العالم الواسع الشاسع لا يزور قاطنيه الموت ليقيم بينهم حاجزًا اسمه الفراق، ويُبقي على ذاكرة نشطة يستحضر مشاهدها الحي عندما يعصف به الحنين؟ من يعرف شخصًا لم يداهمه نبأ موت مفاجئ أخذ منه عزيزًا وتركه نهبًا للتفكير في الموت ليصل لخلاصة مؤداها أن الموت هو الحقيقة الوحيدة التي لا يُختَلفُ حولها في كل المجتمعات الإنسانية؟ أُدرك أنه لا يوجد مثل هذا المكان ولن يوجد مثل هذا الشخص، وأستحضر لتأكيد ذلك قول العزيز الحكيم «كلُّ من عليها فان». بوسعي أن أزيد أسئلة أخرى من صنف السؤالين السالفين، وأنا ألملم شتات الذكريات المبعثرة في الساعات الأولى من صباح لم يكن ككل الصباحات؛ لأتجرع فيما بعد وجع صدمة الخبر بوفاة الإعلامي اللامع والصحفي الفذ والإنسان الطيّب المحبوب والوطني المخلص الذي اختصرت فيه شاعرة البحرين فتحية عجلان القول: «الوطن يبكيك يا شايل وطن»، إنه سعيد عبدالله الحمد، الذي حمل الوطن في خلجاته. لست أدري لِم قفزت إلى ذهني صور ومواقف للراحل ازدحمت بها فجأة ذاكرتي، وكأنها تمكر بي لتضاعف ألمي وإدراكي للموت لحظة فاصلة بين كون وعدم، ولتصفعني بحقيقة الفقد صفعًا لا أملك أمام عنفه إلا التساؤل منكرًا: أصار «بوعبدالله» من أهل «كان» وخبرها؟! يأبى قلبي أن يصدق الخبر، إلا أن صوت العقل ينبئني بأن قلب سعيد الحمد الكبير النابض عشقًا للبحرين وأهلها قد توقف فجأة معلنًا نهاية مسيرة مفعمة بعطاء غزير لعمله ووطنه، ورسالته كاتبًا ومثقفًا وإعلاميًا التزم في مسيرته الإعلامية بأن يجعل قلمه في خدمة البحرين وحدها، ولذلك كان مداد قلمه من قلبه النابض بحب البحرين. الموت في النهاية هو الخاتمة الحتمية لحياة كل كائن حي، وهذا أكيد، غير أن الفرق بين موت وآخر هو القرب والبعد ممن وافاه الأجل وارتحل عن عالمنا، وهو أيضًا أثر الفقيد أو آثاره ووقع أفعاله ومساهماته في الشأن العام، فكم من فقيد يرحل ولا يترك أثرًا إلا في قلوب المقربين منه، وكم من فقيد يرحل فيبكيه وطن بأكمله لأنه ترك بين الناس على اختلافهم وتنوعهم بصمة جلية وأثرًا طيبًا هما اللذان يحددان حجم الفقد ومساحة الفاجعة. وسعيد كان واحدًا من هؤلاء الذين أسهموا إسهامًا فاعلًا في الشأن العام وفعله فيه بيّن وواضح يشهد عليه الإعلام بكل مستوياته، فقد برع مذيعًا ومحاورًا في إذاعة البحرين وممثلاً ومقدم برامج تلفزيونية وكاتبًا صحفيًا. لقد كان سعيد الحمد صديقًا وزميلاً لفترة تمتد لأكثر من عشرين عامًا في صرح «الأيام» اتصالي به عن بعد، ولم يكن يومًا في هذه السنوات العشرين إلا صديقًا صادقا صدوقًا وناصحًا أمينًا. وكان قلمه في هذه السنوات العشرين من أنشط الأقلام وأكثرها دفاعًا عن شرعية حكم آل خليفة الكرام وعن مدنية الدولة وعن مؤسساتها الدستورية وعن وحدة النسيج الاجتماعي البحريني. انبرى «بوعبدالله» من منبره «صفحة قضايا» التي كان يشرف عليها في جريدة «الأيام» لمواجهة من تكالبوا على الوطن يحاربونه ويتآمرون عليه، وقد كان أمينًا على ألا تخرج هذه الصفحة عن خط الجريدة العام الذي عُرِف دائمًا بالوفاء والإخلاص للوطن. فاتسمت دائمًا بالرصانة وعلمية الطرح وعقلانية المعالجة. وقد كان هو، في هذا الجانب، ذا صوت مؤثر ونفّاذ؛ لأنه صوت الصدق النابع من قلب نبضه من نبض الوطن، لقد اتسم بالصدق في كل ما قال وما كتب ودافع بشراسة وذكاء عن محبوبته البحرين فربح حب الناس وإقبالهم على ما يكتب ويغرد ويعرض. لقد عُرِف «بوعبدالله» بتناوله البديع في الصحافة المكتوبة وفي التلفزيون لكل ما يتعلق بالقضايا الوطنية، واشتهر بصراحته وعدم تراخيه في الدفاع عن الحق. وقد عبَّر عن ذلك في صيغ مختلفة كان من أكثرها حضورًا في ذاكرة قارئيه ومشاهديه خفة الدم والمفردات المحرقية التي كان يستخدمها لمعالجة قضايا شائكة وكانت تشكل خطرًا داهمًا على الأمن الاجتماعي، ونجح أيما نجاح في النفاذ إلى العقول قبل القلوب. ومثلما كان عفويًا بمحرقيته كان ضليعًا في عربيته وعميقًا في فكره. هذا المقال الأول الذي أكتبه منذ عشرين عامًا خلت من الكتابة المستمرة في صفحة «قضايا» يجيز نشره شخص آخر غيرك يا راحلاً عن دنيانا. فموتك يا «بوعبدالله» غير متوقع، ولكن هذه إرادة الله عز وجل ومشيئته. رحمك الله يا «بوعبدالله» رحمة واسعة وغفر لك وأسكنك فسيح جناته، وألهم العزيزة والدتك وزوجتك وأبناءك وأخويك وأخواتك وأصدقاءك وكل محبيك الصبر والسلوان، «وإنّا لله وإنّا إليه راجعون».
مشاركة :