لا شك أن المكان يشكّل ركنا مهما من أركان الدراما الفيلمية وهو امتداد لفن المسرح الذي سبق السينما بقرون ومع كل التطور فقد بقي المكان بمثابة عنصر مشترك يجمع ما بين الفنين. وتنوعت أساليب المخرجين في رسم صورة المكان وتفاعلاته على الشاشة وكذلك شبكة العلاقات الجغرافية والعناصر التشكيلية التي ترتقي بهذا المكان إلى التفرد والتجلي الجمالي. تنطبق المقدمة على فيلم “شجرة السلام” للمخرجة آلانا براون، وهي التي وضعت تحدي المكان في المقدمة ليكمل وجود أربع شخصيات في إطار مربع واحد. فتيات أربع داخل ذلك المخبأ في أسفل منزل في رواندا، أي زمن عصف بهنّ في وسط تلك التراجيديا، وحيث تغرق البلاد في أنهار من الدماء وحيث ثنائية عرقيتي الهوتو والتوتسي، لا يكاد إنسان لم يسمع عنها، وقد تم نحر أكثر من مليون إنسان في تلك المجازر الرهيبة وأما النسوة الأرب فهنّ هاربات من ذاك المصير. لا يربط بين الشخصيات الأربع رابط في هذه الدراما، كان بالإمكان أن يكون ذلك عملا مسرحيا رائعاً أيضا لا سيما مع تخلي الفيلم عن أدواته الأخرى في حرية التنقل بين الأماكن والأزمنة، وإذا بكاميرا المخرجة الشابة آلانا أسيرة الجدران الأربع. ☚ المخرجة في هذه الدراما تنجح على مستويين وهما الخروج عن نطاق أسر المكان المحدود ورسم مسار حياة مواز في تلك الدائرة هنالك الزوج الذي لن نرى منه إلا يده الممتدة نحو زوجته ليشد من عزمها أو يلقي إليها ببعض الطعام، آنييك (الممثلة إيليان أوموهير) ومعها جانيت الراهبة القادمة من الدير (الممثلة تشارمين بنغوا) وبيتون الأميركية القادمة إلى رواندا في مهمة إنسانية تطوعية (الممثلة إيلا كانون) وموتيسي (الممثلة بولا كوليشو) وهي من عرقية التوتسي الملاحقة بالموت. تبنى تلك الدراما الفيلمية على أساس ذلك التهديد الوجودي الذي يلاحق الشخصيات فيما دوافعها للبقاء من أجل الحياة تكشف عن ماض وتعقيدات، فلكل واحدة منهن حكاية وماض مختلف اثنتان سبق وتعرضتا للتحرش الجنسي وواحدة لإجهاض متكرر والأخرى تتميز بنزعتها العنيفة والانتقامية. واقعيا، البقاء في إطار ذلك الحيز المكاني، جلب معه الكيفية التي تتيح الخروج من الرتابة التي يتسبب فيها قيد المكان الواحد، ولهذا بدأت الرتابة تتسرب إلى الفيلم والإيقاع الفيلمي وهو متوقع في مثل هذا الحيز المكاني المحدود. تعالج المخرجة تلك الإشكالية من خلال تتابع عدد الأيام التي تحصيها الشخصيات، نحن في العام 1994 والنسوة الأربع مكثن أكثر من ثمانين يوما أمضين معظمها من دون طعام ولا شراب، وبذلك دخل العامل الزمني الذي هو أشبه بالعد التنازلي الذي من خلاله تنتظر الشخصيات ما سيحل بها في آخر المطاف لاسيما وهو موت محدق من كل جانب. على الجانب الآخر، هنالك تلك الكوة الصغيرة التي هي المتنفس الوحيد من ذلك الصندوق المحكم، من هناك تأتي أصوات الاستغاثات وصوت إطلاق الرصاص وترويع التوتسي وصولا إلى مشهد اغتصاب امرأة حامل ومن ثم قتلها، عبر تلك الكوة كانت الحياة تدور دورتها وبطش إنسان وتوحّشه يكون قد وصل إلى أقصاه. بإمكان الصديقة الأميركية من بين النسوة الأربع أن تنال حريتها بعد تدخل الأمم المتحدة لإجلاء الأجانب، لكنها تقرر ربط مصيرها بالأخريات، يجري عليها ما يجري عليهن، وهكذا تتعقد تلك الدراما الكارثية مع وصول جماعات الهوتو التي تطالب بالثأر من الزوج المتستّر على النسوة الأربع وهو أستاذ في مدرسة ثانوية، وهناك يجب تتبعه لتتم إبادة المدرسة بالكامل. بالنسبة إلى هذه الشخصية الإشكالية/الأستاذ ومعه زوجته فإن دوافعهما متعارضة تماما عما هو سائد، فكلاهما من عرقية الهوتو التي تتولى الإبادة، لكنهما يرفضان الانضمام إلى تلك الحفلة الدموية ويرفضان الاقتصاص من أبناء وطنهم التوتسي، ولهذا يدفعان الثمن ترويعا ورعبا. ☚ وسط مشاهد القتل والموت وهي ذروة ما يمكن أن يصل إليه البشر في صراعاتهم تنبت بذرة إنسانية ☚ وسط مشاهد القتل والموت وهي ذروة ما يمكن أن يصل إليه البشر في صراعاتهم تنبت بذرة إنسانية تنجح المخرجة في هذه الدراما على مستويين وهما الخروج عن نطاق أسر المكان المحدود أو الحيز المكاني المغلق والانتقال بالشخصيات إلى مستوى التكافل والمصير الإنساني الواحد ومن جهة أخرى إيجاد مقتربات في تلك الدراما الفيلمية باتجاه رسم مسار للحياة يوازي الخط القاتم لذلك الموت الذي لا نهاية له والذي يعصف بالشخصيات. على أننا في وسط هذه الدراما الفيلمية نتلمس خطا مكملا لأفلام أخرى عالجت ذات المحنة الإنسانية، ومنها فيلم فندق رواندا وفيلم قتل الكلاب وفيلم مئة يوم وغيرها، وفي كل منها رصد مختلف لتلك الكارثة الإنسانية المريرة. هنا وسط مشاهد القتل والموت وهي ذروة ما يمكن أن يصل إليه البشر في صراعاتهم فيما بينهم، تنبت بذرة إنسانية تلمسها من خلال القصص الإنسانية الأكثر شيوعا عن تلك الحقبة المظلمة، ومنها هذا الفيلم المبني على أحداث حقيقية. وأما إذا انتقلنا إلى الجانب الإنساني فإن هذا الفيلم جاء محملا بمعان إنسانية رفيعة ومؤثرة فالقاسم المشترك بين تلك الشخصيات التي يطوقها الموت من كل جانب هو الوجود الإنساني المجرد والعابر للأعراق والبلدان والانتماءات، وهو ما سوف يصمد في آخر المطاف ليتحقق للشخصيات خروجها من دائرة تلك المحنة المريرة التي عاشتها وسط معاناة لا تكاد تنتهي.
مشاركة :