هناك ميزة يتميز بها مؤسس هذه البلاد وباني نهضتها الملك عبد العزيز رحمه الله ويشاركه فيها الملك سلمان - أمد الله في عمره - وهي أنهما يعرفان اين يكون موقعيهما من الدولة والمجتمع؛ فالرواد والقادة العظام، الذين أبقوا تأثيراتهم في التاريخ يأبون إلا أن يكون موقعهم في مقدمة الركب، فيقودون مجتمعهم نحو الصدارة، ونحو مواكبة العصر، ولا يلتفتون إلى ممانعة الممانعين ولا لجعجعة المزايدين؛ فمن المعروف تاريخيا أن أية حركة تغييرية حداثية، خاصة إذا تعلق الأمر بالعادات والتقاليد الموروثة، تلقى مواجهة وإباء ومقاومة، وتتشبث ما أمكن بالموروث، وغالباً ما يسبغون عليه قدسية دينية، حتى وإن لم يكن له علاقة بالقداسة لا من قريب ولا من بعيد. ومن يقرأ تاريخ الملك عبدالعزيز، وبالذات بعد أن أنجز مشروعه الوحدوي العظيم، وأقرّ حدود المملكة كما عليه جعرافيتها الآن، التفت أول ما التفت إلى ترسيخ هذه الوحدة وتجذيرها بما يكفل بقاءها واستقرارها والأهم استمرارها، فكان قراره التاريخي بالتنقيب عن النفط والمعادن، وفي بيئة منغلقة تأبى الأجانب، خاصة من غير المسلمين، وتعتبرهم رجساً من عمل الشيطان، كان دخولهم للمملكة والتجول فيها بمثابة الاقتحام الأول الذي كان يحمل من المخاطر على اللحمة الوطنية بمعايير ذلك الزمان الشيء الكثير، سيما وأن الممانعين كانوا جزءا من طلبة العلم أو المشايخ الذين كان لأصواتهم صدى شعبي، خاصة وأن هذه الخطوة الاقتحامية كانت بعيد حادثة (السبلة) التي كانت تمثل حينها حركة انشقاقية، مما قد يستغلها المنشقون في إحداث مزيد من الانشقاقات بدوافع دينية غاية في التعصب والتفسير المتطرف للنصوص الدينية، وبالذات ما يتعلق بالعلاقة مع الآخر غير المسلم، غير أن قدر من يصنعون التاريخ، والملك عبدالعزيز بلا شك واحدٌ منهم هو الوقوف دائما وبشجاعة على حافة الهاوية، التي قد تبدو للمرتعشين والمترددين أنها مخاطرة غير مأمونة العواقب، إلا أن العظيم يعرف كيف يحسب قراراته جيدا، فمن يقرأ إصلاحاته الداخلية في ذلك الوقت المبكر يلحظ بوضوح أنه يتعامل مع تنمية مجتمعه كالقائد الذي يقود قاطرة تشق طريقها على خط قُدّ من إرادة فولاذية لا تعرف الرضوخ للضغوط، فمن التحق بهذه القاطرة سيصبح من ركابها، جزء من الدولة الفتية، ومن تشبث بالماضي وأصر عليه بقي حيث كان، وسوف يلفه النسيان. ويبدو أننا في عهد الملك سلمان نعيش في عصر تنموي جديد، عنوانه الرئيس إعادة قراءة المرحلة السابقة قراءة موضوعية، مؤداها أن نجدد المسيرة ونصحح التوجهات ونعيد هيكلة الدولة إدارياً، ونبتكر آليات تنفيذية جديدة، تدور مع المصلحة الوطنية حيث دارت وإلى أين اتجهت، بيت القصيد فيها تنويع مصادر الدخل، وتلمس القصور في الإيرادات، والعمل على توجيهها التوجيه السليم... هذا ما فهمه كثيرون من اللقاء الذي ضم العديد من الفعاليات الوطنية الثقافية الناشطة المُطالبة بالإصلاح والتصحيح، والذي تم بإشراف سمو الأمير الشاب محمد بن سلمان النائب الثاني لرئيس الوزراء وزير الدفاع ورئيس المجلس الاقتصادي التنموي. ما دار في ردهات ذلك اللقاء، والنقاش الذي جرى بين ورش العمل، والكلمة الشاملة المفعمة بالرغبة في الإصلاح والتغيير والتقويم التي ألقاها سموه في المجتمعين، خلقت بالفعل جوا يشوبه كثيرا من الاطمئنان والتفاؤل بغدٍ مشرق، وتغييرات جذرية إيجابية في كل المجالات، وهي تكاد أن تكون امتداداً ولكن بمنطق عصرنا لما قام به المؤسس رحمه الله، والتي تعيش المملكة اليوم في أكناف تلك القرارات التنموية، عصية على رياح الزعزعة الأمنية؛ وليس لديّ أدنى شك أن مثل هذه القرارات التغييرية والتصحيحية ستجد من تيار التكلس والممانعة والثبات ما لقاه الملك عبد العزيز من أقرانهم عندما بدأ مرحلة تحديث المملكة، غير أن هناك حقيقة تقول : الدولة التي لا تنمو ولا تواكب شروط حاضرها لا شروط ماضيها لا يمكن أن تبقى.. وهذا ما قرأه كل من حضر اجتماع ورش عمل (فندق الرتس كارلتون) الذي أعلن فيه الأمير محمد بمنتهى الوضوح أن القادم شكلا ومحتوى سيكون اختلافات جذرية من شأنها أن تخلق مملكة عصرية جديدة في كل المجالات. وكما قلت في البداية العظماء يقفون في مقدمة مجتمعاتهم ويقودونها نحو التغيير ومواكبة العصر، ومن ينتظر المجتمع حتى يقبل التغيير ليتخذ قرار التغيير، فيمكن أن يكون موظفا بيروقراطيا جيدا، لكنه قطعا ليس له علاقة بالقادة العظماء. إلى اللقاء
مشاركة :