في 16 يونيو 2022، أعلن قادة كل من «فرنسا» و«ألمانيا» و«إيطاليا» و«رومانيا»، خلال اجتماعهم مع الرئيس الأوكراني، «زيلينسكي»، في «كييف»، دعمهم لأوكرانيا في حربها ضد روسيا، وكذلك تعزيز ترشيح البلاد للانضمام يومًا ما إلى الاتحاد الأوروبي. ووصف «روجر كوهين»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، هذه «الطمأنينة العلنية»، بأنها رسالة إلى «موسكو»، بشأن استمرار الوحدة الأوروبية. من ناحية أخرى، احتدم نقاش بين السياسيين والأكاديميين، حول مسألة ما إذا كان على الغرب الدعوة إلى تفاوضية لإنهاء الحرب. ومع تطور الصراع إلى حرب استنزاف، وعدم وجود قوة عسكرية كافية لأي من الطرفين لإزاحة الآخر؛ اتخذت التداعيات السياسية والاقتصادية للحرب بعدًا عالميًا. وبالإضافة إلى أزمة الغذاء الرئيسية التي سببها حصار الموانئ الأوكرانية، أثر ارتفاع أسعار الطاقة في المستهلكين الأوروبيين. وفي حين لا يزال هناك قدر من التعاطف مع الأوكرانيين، لاحظ «إيفان كراستيف»، و«مارك ليونارد»، من «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية»، أن «الرأي العام الأوروبي آخذ في التحول»، وأن هناك انقساما بين أولئك الذين «يريدون إنهاء الحرب في أسرع وقت ممكن»، (معسكر السلام)، و«الذين يريدون الاستمرار في القتال حتى هزيمة روسيا» (معسكر العدالة). وانعكس هذا التقسيم على المستوى الرسمي، حيث التزمت ألمانيا وفرنسا، بالتواصل مع موسكو، في حين تتبنى «الولايات المتحدة»، و«المملكة المتحدة»، هزيمة روسيا الاستراتيجية. وبالتالي، يهدد هذا الوضع بتقويض الرد الغربي الموحد ضد العدوان الروسي، فضلاً عن ترك استمرار هذا الصراع وعواقبه السلبية العديدة من دون معالجة. وتتناقض الاختلافات السياسية الحالية مع الاستجابة الغربية الموحدة لاندلاع الصراع. وأشار «كراستيف»، و«ليونارد»، إلى أن الأوروبيين «فاجأوا بوتين وأنفسهم بوحدتهم وحسمهم». وتمثلت القوة الدافعة للموقف الأوروبي في «غضبها من العدوان الروسي وانبهارها ببسالة المقاومة الأوكرانية». وعلى الرغم من أن «أورسولا فون دير لاين»، رئيسة المفوضية الأوروبية، أشارت إلى أن «بروكسل»، تريد للأوكرانيين «العيش معنا بالحلم الأوروبي»، إلا أن التكاليف الاقتصادية المتزايدة لهذه الحرب على القارة تؤثر في مدى استعداد بعض الدول لانتظار هزيمة روسية، بدلاً من السعي نحو حل دبلوماسي، حتى لو تطلب ذلك تنازلات أوكرانية. وأوضحت «ديان فرانسيس»، من «المجلس الأطلسي»، أن الدول الأوروبية «تشعر بآثار إمدادات الطاقة وطوفان اللاجئين الأوكرانيين منذ بدء الغزو». وفي ردها على العقوبات الاقتصادية الغربية، قامت «روسيا»، بتخفيض خط أنابيب الغاز نوردستريم إلى 40% من طاقته. وأشارت وكالة «بلومبرج»، إلى أن صادرات الغاز إلى «ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا»، تم «تقييدها». وأكدت مديرة الاستخبارات الوطنية في الولايات المتحدة، «أفريل هينز»، أن «بوتين»، لا يزال «يعتمد على عزم واشنطن وبروكسل على التراجع»؛ من خلال تفاقم «نقص الغذاء، والتضخم، وأسعار الطاقة». وتباينت ردود أفعال الدول الغربية تجاه هذا الوضع. ففي حين قال رئيس الوزراء البريطاني، «بوريس جونسون»، إن الغرب بحاجة إلى «تجهيز نفسه لحرب طويلة»، ومواجهة محاولات بوتين «تدمير أوكرانيا»؛ واصل قادة فرنسا وألمانيا، الحوار المباشر مع «بوتين». وأشار المستشار الألماني «شولتز»، إلى المحادثات مع الرئيس الروسي، بأنها «ضرورية للغاية»، وأصر على أنه و«ماكرون»، سيمضيان قدما فيها. وعلق رئيس الوزراء الإيطالي، «ماريو دراجي»، بأن شعبه «يريد وضع حد لهذه المذابح»، وتسهيل «مفاوضات ذات مصداقية». ومع ذلك، قوبل هذا النهج بانتقادات من قبل المراقبين الغربيين، حيث وُصف بمحاولة «التهدئة»، وإضفاء الشرعية على نظام يخوض حربًا غير مُبررة. وعلى وجه الخصوص، تم توجيه اللوم إلى «ماكرون» في أوائل مايو عندما حث القادة الغربيين على عدم إذلال «موسكو»، خشية تقويض شروط المفاوضات «اللاحقة». وأشارت «كاتيا هوير»، في صحيفة «واشنطن بوست»، إلى الكيفية التي «بدأت بها برلين وروما» في تقويض العقوبات ضد روسيا «من خلال السماح لشركات الطاقة بإجراء عمليات شراء بالروبل، وبالتالي اعتبار «سياسة القادة الأوروبيين غير مدروسة». من جانبه، أشار «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية»، إلى أن مواقف الأوروبيين تجاه المناقشات مع «موسكو»، لإنهاء الحرب، تعكس بشكل كبير الآراء العامة في جميع أنحاء القارة، حيث وجد أن 35% من الأوروبيين يريدون «إنهاء الحرب في أقرب وقت ممكن»، مقارنة بـ25% يعتقدون أن معاقبة موسكو على عدوانها يبقى «الهدف الأكثر إلحاحًا». وبينما تُظهر البيانات أن الأوروبيين يلومون روسيا بأغلبية كبيرة على الحرب (73%)، تم الكشف عن أن 52% من الإيطاليين، و49% من الألمان، و41% من الفرنسيين يسعون الآن إلى أسرع نهاية ممكنة للحرب. علاوة على ذلك، بينما لا يزال الألمان يؤيدون بشكل عام، إرسال مساعدات عسكرية إضافية إلى أوكرانيا (52%)؛ يرى 45% فقط من الإيطاليين نفس الشيء. ويشير كل من «كراستيف»، و«ليونارد»، إلى أن القضية الأكثر إثارة للقلق بالنسبة إلى أوروبا، فيما يتعلق بالصراع، هي ارتفاع أسعار الطاقة»، وبالتالي، »ما لم يتغير شيء بشكل جذري»، فإن الأوروبيين «سيعارضون استمرار أمد الحرب». وفي تناقض واضح مع هذا، وجد «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية»، أن «بولندا»، كانت الدولة الوحيدة في أوروبا، التي لديها نسبة أعلى من المواطنين ترغب في معاقبة روسيا. كما وجد أيضًا أن 77% من البولنديين «يريدون قطع جميع العلاقات الاقتصادية مع موسكو، وأن 78% يؤيدون «إرسال أسلحة إضافية إلى أوكرانيا»، وهو مستوى أعلى بكثير من المتوسط القاري. وفي ضوء هذه الانقسامات، حذر «كراستيف»، و«ليونارد»، من أن الاتحاد الأوروبي يمكن أن «يتعطل بسبب انقساماته الخاصة»، وأن التقاعس عن العمل في وقت أزمة كبيرة، يمكن أن يؤدي إلى «تهميش دائم لأوروبا على المسرح العالمي». وبسبب هذا الخطر المتزايد، حثا الدول الأوروبية على إيجاد «آلية جديدة» من أجل «تعزيز الوحدة، وتجنب تزايد حدة الاستقطاب بينها.» من ناحية أخرى، تتمسك «واشنطن»، و«لندن»، بتزويد «كييف»، بالدعم الذي تحتاجه للتصدي للعدوان. ورغم تأثر البلدين بارتفاع أسعار الطاقة؛ إلا أنهما استطاعا أن يكونا أقل اعتمادًا على صادرات الغاز الروسي، وبالتالي أكثر استعدادًا لمواصلة العقوبات الاقتصادية ضدها. وحتى الآن، قدمت «واشنطن»، لأوكرانيا 54 مليار دولار من المساعدات، منها حوالي 20 مليار دولار مساعدات عسكرية. وصرح وزير الدفاع الأمريكي، «لويد أوستن»، أن بلاده تريد أن ترى «روسيا دولة ضعيفة حتى لا تستطيع تكرار ما حدث في مكان آخر». وأوضحت «فيليسيا شوارتز»، و«آمي كازمين»، في صحيفة «الفاينانشيال تايمز»، أن «هناك حالة من عدم الوضوح حول ما تعتقد واشنطن أن بإمكانها تقديمه لأوكرانيا»، كما «لا يوجد أية إيضاحات حول آليات فرض الهزيمة الاستراتيجية لروسيا على أرض الواقع»، ناهيك عن «عدم معرفة أي نوع من التنازلات، التي قد تدفع الولايات المتحدة «كييف»، إلى قبولها». علاوة على ذلك، هناك انقسامات بين «واشنطن»، و«لندن»، حول مقدار الدعم الذي يجب أن تحصل عليه أوكرانيا. وأشارت «شوارتز»، و«كازمين»، إلى أن الأمريكيين يشعرون بالانزعاج «من اللهجة الحادة» التي وجهتها لندن إليهم لتقديم المزيد من المساعدة لأوكرانيا». وأوضح «جيريمي شابيرو»، من «المجلس الأوروبي»، أن البريطانيين «يتقدمون على الأمريكيين بعض خطوات في هذا الصدد». ووجد استطلاع رأي نشره «المجلس الأوروبي»، حول حرب أوكرانيا، أن 22% فقط من البريطانيين يميلون إلى معسكر «السلام»، الذي يسعى إلى إنهاء الحرب، «حتى لو كان ذلك يعني تقديم أوكرانيا تنازلات. واستمرارًا لهذه الحجة، تم حث العديد من قادة الغرب على استمرار دعم «كييف». وشدد الأمين العام لحلف الناتو، «ينس ستولتنبرغ»، على أن أوروبا «يجب ألا تتخلى عن دعمها لها»، مؤكدًا أن «ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء»، لا يُقارن «بالخسائر التي تتكبدها يوميًا جراء تلك الحرب». وأشار «تشارلز كوبشان»، من جامعة «جورج تاون»، إلى أن الحل التفاوضي للصراع، هو «الخيار الصائب الذي يجب أن يتحقق عاجلاً وليس آجلاً»، واصفًا الحجة القائلة بأن الهزيمة الحاسمة لروسيا فقط، هي التي ستردع أي مخطط لشن عدوان مستقبلي تجاه أي دولة، بأنها «حجة خاطئة تمامًا»، «تعرقل المساعي الدبلوماسية». وبما أن «بوتين»، «على استعداد للبقاء في السلطة»، فإنه «لا يهمه انتهاء هذه الحرب». لذلك، أكد أن «من الحنكة الاستراتيجية»، اللجوء إلى «التهدئة»، وأنه «يجب على كييف التفاوض وبدء عملية سلام تهدف إلى إبرام تسوية إقليمية». في مقابل ذلك، أشارت «آن أبلباوم»، في مجلة «ذي أتلانتيك»، إلى أن روسيا لم تهتم بالمعاهدات المتعددة التي تلتزم نظريًا بها»، بما في ذلك اتفاقية «جنيف لأسرى الحرب»، وبالتالي، فإن «أية تسوية لن تنهي العدوان أو بإمكانها إحلال السلام الدائم»، موضحة أن أي مفاوضات توصي بمنح الأراضي المتنازع عليها لموسكو معناها «مكافأتها على غزوها» من دون أدنى رد. وكتب «ستيفن بلانك»، من «معهد أبحاث السياسة الخارجية»، أن «موجات التعاطف الغربية الأخيرة مع بوتين»، تعد «مؤشرًا» على استمرار حالة التردد الدولية، كما أنها إشارة إلى الفشل الغربي في فهم الطبيعة الحقيقية للحرب الحالية». وبالتالي، فقد اعتبر أن «استرضاء روسيا لن ينهي الحرب أو يؤمن فرصة لاستتباب السلام»، لكن بدلاً من ذلك، فإن التنازلات الإقليمية الأوكرانية لن تؤدي إلا إلى «تقوية شوكة بوتين»، و«إضعاف الغرب». وأوضح «بول نيلاند»، من «المجلس الأطلسي»، أنه بعد تدمير البلدات والمدن الأوكرانية، «لا يمكن أن يكون هناك المزيد من الأوهام فيما يتعلق بإمكانية التوصل إلى سلام مع بوتين». ولعل الأهم من ذلك، أن الحلول الغربية لهذا الصراع، يجب أن تأخذ في الاعتبار أيضًا موقف روسيا نفسها. ورغم إشارة «صامويل شاراب»، من مؤسسة «راند»، أن «روسيا سوف تضعف قواها بغض النظر عما قد يحدث في الحرب»، وأنها ستكون «معزولة، وفقيرة»، و«محاطة بمزيد من دول الناتو»؛ لم تظهر موسكو أي علامة على التحرك نحو أية مفاوضات أو تسوية سلمية. وبدلاً من ذلك، ضاعف «بوتين»، من خطابه المعادي للغرب والتزامه بالحرب. وخلال قمة «منتدى سان بطرسبورج الاقتصادي الدولي»، صرح بأن بلاده ستخرج «أقوى» من الحرب، وستكون قادرة على تجاوز جميع العقوبات الاقتصادية الغربية ضدها، وأن «بروكسل»، «فقدت سيادتها السياسية تمامًا. بالإضافة إلى ذلك، لا تزال الحرب تحظى بشعبية في روسيا. ووجدت دراسة أجراها «مركز ليفادا»، أن نسبة التأييد لغزو أوكرانيا بلغت 77% بين الروس في مايو 2022. ووصف «بيتر ديكنسون»، من «المجلس الأطلسي» هذه الأرقام، بأنها «أخبار محبطة لانعدام أي ردود فعل عنيفة داخل روسيا حيال استمرار الحرب». وبدلاً من التسبب في ضغوط داخلية للانسحاب أو السعي للتوصل إلى اتفاق سلام، أشار إلى أن استطلاعات الرأي تُظهر أن «غالبية الروس قد قبلوا ظروف الحرب اليوم باعتبارها وضعا طبيعيا». على العموم، رغم أن حرب أوكرانيا قد تطورت إلى حرب استنزاف لا تحسمها الآلة العسكرية، لا يمكن التقليل من تطور الوحدة الغربية تجاه ضرورة إنهائها. ولعل ما يفاقم الوضع الراهن كون الرأي العام الأوروبي منقسما، إزاء التعامل مع الحرب، إلى جانب تصدي «بوتين»، للعقوبات الغربية والضغوط السياسية، وإصراره على الصمود والخروج من الحرب أقوى مما كان عليه. وكما أوضح «شوارتز»، و«كازمين»، فإنه في حين يؤكد القادة الغربيون أن «القرارات النهائية لإنهاء الحرب تقع على عاتق أوكرانيا»، فإن قدرة الأخيرة على المقاومة فترة طويلة، تعتمد على «السلاح والمال»، التي تتلقاهما من «أمريكا». وفي ضوء مواصلة «واشنطن»، دعمها القوي لأوكرانيا عسكريًا ودبلوماسيًا، فإنها في وضع أفضل لممارسة الضغط عليها للموافقة على أي تسوية مستقبلية. ولعل هذا الأمر، هو عنصر آخر من المرجح أن يضعف الوحدة الأوروبية إزاء هذه الأزمة.
مشاركة :