سوف أتناول خلال هذه الأسطر رواية «أقدار البلدة الطيبة» للروائي السعودي عبدالله الوصالي والحائزة على جائزة نادي حائل الأدبي للرواية 2016م في محاولة للمقاربة النقدية. يبدأ السرد في الرواية مع خروج شخصية الشيخ القائم الذي شكل قيام أسرته على سدانة ضريح العثمانية بؤرة الحكي، فأخذت بذلك مساحة واسعة في المتن السردي، وجعل السارد من هذه البؤرة أرضية لمد وجزر بين الشيخ القائم والسلطان العربي الفاتح للمناطق المجاورة. فالضريح الذي يشكل قيمة مقدسة لدى الشيخ القائم وسكان العثمانية، سيواجه بالاستنكار من قبل السلطان الذي سيدخل بقيم جديدة مع المتشددين دينياً الذين لن يتسامحوا مع الأضرحة، فواجه الشيخ سلطة السلطان المقتحمة بالوِرد الديني تلو الوِرد، وبالدعاء والصلاة والتضرع لله من أجل حماية العثمانية أو البلدة الطيبة. تعمد السارد التسمية المتخيلة (البلدة الطيبة) لتكون رمزاً لكل مجتمع محافظ منغلق على ذاته، جاعلاً منه مجتمعاً يتشظى ويتهدم حسب ما اقتضته الأحداث والحبكة. في هذا الفضاء الحكائي، تنامت وتيرة السرد حول أربع شخصيات: محسن، فريد، فيصل، والسارد سمير الذين جمعتهم العثمانية، ومدرستها. ويقول السارد: «كانت المدرسة واحدة من مميزات العثمانية، التي ينشأ فيها الكثير من خوف الله، والسلطات، والآباء، والجن والسعالي والغيلان، والعين والحسد، وزدنا نحن الأربعة محسن وفريد وفيصل وأنا على تلك القائمة الطويلة من المخاوف المكتنزة، خوفاً آخر من خارجها؛ الخوف من المدرسين العرب. إن علاقة السارد بالشخصيات الثلاث أخذت حيزاً كبيراً على مستوى المتن في الخطاب السردي، فتطرق لها عبر كلام من زاوية الرؤية من الداخل، ويصفهم بأدق تفاصيلهم، فجميعهم تدمروا من طريقة القيم التقليدية القائمة على العنف والكبت. وكل من المدرسين المصري «رشدي» والفلسطيني «مروان»، كانا لا يرحمان أيادي محسن وفيصل وفريد وسمير من الضرب المبرح حتى تنز منهما الدماء. وظهور شخصيتي المدرسين يعزز وجهة نظر السارد في القومية العربية التي تعرضت للهزيمة، ما جعل كل منهما أن يزدادا عنفاً وقسوة لتفريغ هزيمتهما في أجساد الصغار. حاول السارد أن يفكك الشخصيات الطفولية عبر مسايرة عوالمها، لكنها لم تستطع حيال مجتمع منغلق محافظ عمل شيء، وكان يوجد حيلاً لهذه الشخصيات لكي تعرف وإن كانت معرفة مشوهة، كما حدث لفيصل الذي وقع في غرام صورة لفتاة شقراء التقطها من بيت (الكويتي) صاحب الفرن في العثمانية فظنها ابنته، حيث سيكتشف أن الصورة ليست إلا للمغنية «هيام يونس»، وتمكن السارد بكل حذاقة أن يصور عالم الطفولة الخاضعة لتربية وتعليم تقليديين يقومان على القمع والعنف. في صفحة 152 ولتغيير وتيرة السرد يأخذنا السارد إلى حقبة جديدة وهو الانتقال إلى الجامعة ومرحلة جديدة حددها بظهور «النفط» ومغادرته وأسرته من العثمانية إلى فضاء جديد. ويقول: يقع المستشفى على بعد نصف ساعة من منزلنا الذي انتقلنا إليه، سأمر بشوارع تحفها الفلل والبيوت الإسمنتية بعد أن تحولت الصحراء المحيطة بالعثمانية إلى مخططات سكنية سعر مترها المربع لا يتصوره أحد، وبذلك تكون طرأت على فضاء الحكي متغيرات تزامنت مع تقدم الشخصيات الأربع في السن. تتعدد مصائر الأصدقاء الأربعة ففريد غير اسمه إلى عبد الرحمن، وفي هذا التغيير دلالة على تمرد نهاية أبيه المعتقل، الشيء الذي جعله يتشدد دينياً، وفيصل اكتوى بموت أبيه الذي كان ضحية البئر العفنة التي غصت بمخلفات العثمانية، ومحسن نهايته الموت، أما السارد الذي لم يفصح عن اسمه إلا في صفحة 158 من خلال حوار فرض نفسه بين السارد سمير وصديق طفولته محسن حيث زاره في المستشفى وكان يريد من خلاله أن يعرف بكل شوق أخبار أصدقائه الآخرين. ويواصل السارد في وصف حزين لمصير إحدى شخصيات الرواية «والد فيصل» حتى بعد هذه السنين يظل ما حدث باعثاً على الحزن، أيام قليلة فصلت بين غرق أبي فيصل وتدشين الهدم في بداية البستان، فالاعتقاد المفرط في الأشياء والبشر يورث شللاً في الإرادة والتفكير. أستاذ النقد الحديث في جامعة جازان د. رشيدة محزوم *
مشاركة :