لم تخب التقديرات بشأن الحرب في أوكرانيا التي رأت أنها سوف تطول. كان العديد من المراقبين يعتقدون في نهاية شهر شباط (فبراير) الماضي أن الحرب لن تدوم كثيراً. بعضهم اعتقد أن روسيا سوف تحسم الحرب لصالح موسكو بسرعة، وتقلب الموازين على أرض أوكرانيا بشكل كامل. هذا لم يحصل. البعض الآخر اعتقد بعد صمود الأوكرانيين في المرحلة الأولى للحرب، وفشل الهجوم على العاصمة كييف، أن روسيا وفي ضوء خسائرها الكبيرة في المرحلة الأولى قد توقف الهجوم، وتجلس إلى طاولة المفاوضات. هذا أيضاً لم يحصل. الحرب استمرت، وهي متواصلة بين روسيا والغرب عموماً بقيادة الولايات المتحدة. التداعيات هائلة على صعيد أوروبا، أكان من الناحية السياسية، أو الاستراتيجية، أو الاقتصادية. كما أن التداعيات على العالم كبيرة، لا بل إنها خطيرة جداً، وتحديداً على مستوى إمدادات الغذاء التي تشهد تقلبات، أو على صعيد ارتفاع أسعار النقط والغاز في العالم، فضلاً عن المعادن الثمينة. إنه وضع يمكن تحديده من خلال موقف للرئيس الأميركي جو بايدن الذي قال أمس في أحد تصريحاته إن "العالم يقف أمام مرحلة تاريخية، وهناك تطورات متسارعة تؤثر فينا جميعاً". كلام بايدن الموجه الى الداخل الأميركي موجه الى الخارج أيضاً. فعندما يتحدث رئيس أميركي بكلمات من هذا النوع فهو قادر بما يعكس مركزية الدور الأميركي في العالم، على أن يخاطب الخارج الذي يفترض أن يأخذ هذا الأمر على محمل الجد. طبعاً إن التطورات المتسارعة تعني كل الأقاليم في العالم، لا سيما الأقاليم حيث ثمة نزاعات لن تخبو نارها يوماً. أحد هذه الأقاليم الشرق الأوسط الذي يبقى إقليماً مركزياً في العالم، له تاثير جيوسياسي واضح المعالم في محيطه المباشر، فضلاً عن المحيط غير المباشر، وذلك في ما يتعلق بالنزاعات الكبيرة المشتعلة، أو بالمصالح الاقتصادية الاستراتيجية مثل مسألة إمدادات النفط الذي يستخرج من بلدان الشرق الأوسط. التأثير الآخر المهم هو التطور، أكاد أقول الدراماتيكي لوضعية إيران إقليمياً ودولياً، مدى الانعكاس الكبير الذي يمكن أن يتبلور في الأسابيع القليلة المقبلة على الشرق الأوسط، أوروبا، والعالم. لقد أصبحت إيران دولة عتبة نووية. هذا أمر خطير للغاية. إنه أخطر من السياسة التوسعية العدوانية التي تمارسها إيران في المنطقة منذ عقود من الزمن. كل دول المنطقة وضعت نفسها على سكة العمل المشترك، التعاون، التنسيق، التكامل الاقتصادي، حل الأزمات والنزاعات بالوسائل السلمية التفاوضية والدبلوماسية. وحدها إيران تمارس سياسة تهدد الأمن القومي لجميع دول المنطقة بلا استثناء. ما تقدم قد يكون الحافز الأكبر لمعظم الدول المركزية في المنطقة من أجل أن تبتكر وسائل للتعاون المشترك على مختلف الصعد، الأمنية، العسكرية، السياسية، الاقتصادية، التكنولوجية. والأهم أن الدول التي كانت في حالة حرب، أو صراع مديدين صارت تعمل في إطار تحالفي غير معلن رسمياً. لكنه تحالفي الى حدود بعيدة، حيث أن المصالح المشتركة التي تجمع بين هذه الدول الرئيسية الواسعة النطاق، وهي تبرر قيام حالة تحالف إقليمي، حتى من دون تسمية. هنا يمكن إدراج الحديث المتواصل عن العمل على إقامة "حلف ناتو" شرق أوسطي يضم دولاً عربية رئيسية، وإسرائيل، وربما تركيا لاحقاً، مع مظلة أميركية تؤمن التنسيق في الجانب الأمني في إطار القيادة المركزية للجيش الأميركي في الشرق الأوسط. هذا الحلف في حال نشوئه سيكون مدعواً الى التنسيق الدفاعي بين العديد من الدول التي تجمعها مصالح أمنية، وتواجه نمطاً مشتركاً من التهديدات. التهديدات الي نتحدث عنها مصدرها الرئيسي إيران وسياساتها التوسعية، وميلشياتها المسلحة المنتشرة في المنطقة، إضافة الى الخطر الكامن والدائم المتأتي من التنظيمات المتطرفة في العديد من الدول التي نخرتها النزاعات الداخلية مثل العراق وسوريا. انطلاقاً من ذلك كله، يمكن القول إن المنطقة تشهد حركة غير اعتيادية على خلفية خطر اقتراب إيران من الاستحواذ على القنبلة النووية الأولى، إضافة الى التهديدات المتعددة الوجه التي يمثلها برنامجا الصواريخ الباليستية الدقيقة، والطائرات المسيّرة اللذان بات من الواضح أن ثمة اجماعاً في المنطقة على بناء برنامج دفاعي مشترك لمواجهتهما على أكثر من مستوى. واذا كانت الصورة الإقليمية قاتمة، فإنه لا بد من التوقف قليلاً عند احتمالات عودة إيران إلى طاولة المفاوضات في فيينا، وذلك بعد زيارة مفوض السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل لطهران. فهل نكون أمام مشهد آخر يؤدي الى خفض التوترات؟ فالدول العربية التي تتكتل اليوم لا تفعل ذلك ضد إيران، بل بمواجهة السياسة الإيرانية في المنطقة التي تحولت في ثلاثة عقود الى مصدر التهديد الأول قبل أي شيء آخر! فهل تراجع القيادة الإيرانية حساباتها؟
مشاركة :