عبد الكريم جويطي.. أوراق مغربية: دواء الموت!

  • 6/27/2022
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

ماذا بوسع الإنسان أن يفعل لمواجهة الموت، هذه الحقيقة المرعبة؟ هل يمضي في رحلة محفوفة بالمخاطر للحصول على نبتة الخلود، مثل ما فعل جلجامش، ليصل في النهاية إلى الخلاصة التالية: الحياة الأبدية التي يسعى في إثرها لن ينالها أبدا، لأن الآلهة استأثرت بالخلود وحرمت الإنسان منه؟ أم أنه يصدق رؤية الأديان للموت بوصفه عبورا مؤلما بين عالم فانٍ وآخر أبدي سينال فيه المؤمن جزاءه والكافر عقابه؟ أم أنه سيقلل من فداحه الموت، بل سيؤنسنُه، باعتباره نوما طويلا جدا وخلاصا من حياة متعبه لا يخسر الميت بفقدانها إلا عذابه، كما قال المعري: ضجعة الموت رقدة يستريح الجسم فيها والعيش مثل السهاد؟ أم أنه سيتخذ الموت موضوعا للتأمل الذي سيرافق الحياة كلها، وبتأمله هذا، وبتقليبه لموضوعة الموت على كل جوانبها سيتحرر من هوله شيئا فشيئا. فعل هذا إلياس كانيتي في كتابه العظيم " الكتاب ضد الموت" الذي بدأه وهو يافع يحركه قلق آسر تجاه الموت، ومن خلال شذرات واضب على كتابتها طيلة حياته أفرغ الموت من شراسته وتوحشه وأمكنه من خلال حواره الطويل معه أن يروضه ويأنس له، وأن يجعله ليس خطرا محذقا فقط وإنما موضوعا للتأمل الدائم؟ أم أن الإنسان عامة، والمغربي خاصة، لا يحتاج لكل هذا، لأن هناك سوء فهم مزمن مع الموت، جعل الناس لا ينظرون له نظرة صائبة، الموت ليس قدرا محتما، ولا كأسا على كل من ولد أن يشرب منه، ولا حدا، ولا نهاية محتَّمة، ولا حقيقة مطلقة، إنه مرض كسائر الأمراض، مرض فتاك وخطير جدا، يهدد الجميع ويصيب الجميع، نعم، لكن وبما أن الله خلق لكل داء دواء، فهناك دواء للموت. دواء عجيب حقا، ألهم الله الفقيه العدل الموثق المراكشي السوسي سيدي محمد السليطن السملالي لاكتشافه وتجريبه على نفسه أولا: "فوجده صحيحا" وانتقل بعد ذلك إلى كتابة رسالة يخبر فيها المغاربة أولا، والإنسانية جمعاء بالعثور أخيرا على دواء الموت. عاش الرجل في القرن التاسع عشر وكتب رسالته العجيبة في عهد السلطان المولى عبد الرحمن. كتبها وهو في أرذل العمر، علما بأن السلطان توفي سنه 1859. لم يكتب السليطن، الذي يصف نفسه ب: "رجل الأدب" رسالته ليخبر الناس باكتشافه هذا فقط وإنما كتبها أيضا ليحاجج ويفحِم من يعتقد بأن لا دواء للموت، وليواجه تقليدا راسخا قوامه الانهزام الدائم أمام الموت، والإذعان الجبان لها. قد يعتبر من سيقرأ الرسالة بأن الرجل أحمق، "فلو كان للموت دواء لاستنبطه الأولون، ولو كان عندهم ما مات أحد منهم"، غير أن السليطن يرد بأنه: "قد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر، وقد يدخر للمتأخرين ما لم يعط للأولين"، وإن قال: " ألم تسمع قوله تعالى: "كل نفس ذائقه الموت" وهي عامة ف " جميع المخلوقات يموتون حتى سي محمد سليطن" أجاب بأن: " في العموم المذكور استثناء محذوف، لأن الاستثناء من معيار العموم، تقديره: كل نفس ذائقة الموت الا سي محمد سليطن" ورحمة بالسليطن وشفقة لم يُذكر في الآية، فإن ذكر: " فإما أن يذكر ذلك الاستثناء مطلقا من غير تقييد بزمن ولا مكان كقولنا إلا سي محمد السليطن الذي يكون في القرن الثالث عشر في مراكش، فإن ذكر مطلقا فإن المخلوقات يتحيرون في زمانه ومكانه، وإن ذكر مقيدا فإن المخلوقات يجتمعون في مراكش في زمانه ومكانه لينظروا هذا المستثنى من الموت: من هو؟ كم قدر ذاته؟ . . . وإذا اجتمعت المخلوقات كلهم في مراكشـ فانه يقع الغلاء في المشامش (كذا) والباكور ويكون عليهم الازدحام، ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن ذات سيدي محمد السليطن قصيره ضعيفة لا تقدر على الازدحام على المشماش والباكور ولأجل هذا حذف الاستثناء المذكور رحمة بالسي محمد السليطين وشفقه عليه والله أعلم". لم يصل السليطن لدواء الموت بإعمال العقل وحده بل قام بتجربة الدواء للتأكد من صحته، ثم إنه حضر" زمن الجدري وزمن بوحمرون وزمن الوباء وغير ذلك من الأمراض ولم أمت بشيء من ذلك كله مما دل على صحة هذا الدواء العجيب." ليخلص في آخر رسالته إلى "ترتيب المخلوقات الذين لا يموتون هكذا: اللوح والقلم والهاوية والعرش والكرسي والأرواح والجنة والسي محمد السليطن، كما رتبت منظومة: سبع من المخلوقات غير فانية / اللوح والقلم والهاوية والعرش والكرسي والأرواح/ وجنة في ظلها نرتاح وعدل (الناظم) عن ثمانية إلى سبع ليتزن له البيت، كما أنه حذف الواو مع معطوفها بعد لفظ جنه ليتزن له البيت . . . والتقدير: والأرواح وجنة والسي محمد السليطن". أما إن سألتم عن دواء الموت فها هي كيفيته: " أنك مهما أحسست بشيء في ذاتك كيفما كان فاصهل وانهض قائما بسرعة من غير تأن ولا تراخ. فاذا قمت بسرعة فأنت مخير بين أمور ثلاثة: أما أن تمشي برجلك حتى (يطلقك الحال) ويذهب ما بك، فإن كنت تمشي أو تجري فلا تحتاج لشرط، وإن كنت وقفت قائما فلا بد لك من ثلاثة شروط وإن اختل منها شرط فلا أضمن لك شيئا ولا شيء علي، وتلك الشروط هي: أن تقف قائما استبدادا ولا تستند إلى شيء ولا تتكئ على شيء، ولا تتمسك بشيء ولا تزال واقفا قائما حتى يطلقك الحال ويذهب ما بك فهذه هي كيفيه دواء الموت." لا يمكنك إلا أن تقابل وصفة الرجل بقهقهة صاخبة. وهذا بالضبط ما يريده منك، الضحك الهازئ، المهدم، المتفِّه لهذا الجد السيئ الذي يمنع الفرح ويخنق الخيال ويبني حجابا بين المغاربة والحياة. وليس هناك أفضل من السخرية لفضح وتقويض هذا الجد الكاذب الذي يمسك الثقافة في قبضته ويجعل منها تكرارا ببغاويا لصيغ ووصفات وأفكار تحفر فراغا مهولا بين الإنسان ومجرى الحياة. يشن صاحب رسالة الموت - فيما أعلم - أكبر هجوم على تعليم متكلس، يُعنى بالجزئيات، والتفريعات، تعليم ابن عاشر، وابن مالك، والأجرومية، تعليم التلقين، والاتباع، والقشور، والسفسطة الذي تؤلف فيه كتب حول قضايا تافهة جدا، ويعمل بتصنع على إنجاز تخريجات ومقارنات عجيبة، لنقرأ مثلا: " وهذه كيفية دواء الموت الموعود بها آنفا، فاستحضر لها أيها العاقل بالك وذهنك وعقلك كما قال ابن عاشر رضي الله عنه: " وإن ترد ترتيب حجك . . "، تعليم التلفيق، والعنعنة الذي يعلي من النص إزاء الواقع، حتى أن ذكر حيوان ينبغي أن يقرن بالنص الذي ذكر فيه: " والزرافة هي المذكورة في شرح سيدي المكودي . . . والضب حيوان بري لو دخل الماء ساعة لمات، وهو مذكور في دلائل الخيرات"، فالشيء في هذا التعليم الغبي لا يوجد حقا إلا حين يذكر كتاب. يسخر صاحب الرسالة أيضا من ثقافة يشغل فيها الموت مكانة مركزية، ثقافة عذاب القبر، وأهوال الموت وسكراته، ثقافة السبات الطويل والظلمة والخوف. التي حولت الدين إلى موعظة مرعبة حول الموت، وحولت الحياة إلى جثة تنتظر التراب الذي سينهال عليها، ثقافة الدموع والنحيب والتفجع. ضدا في كل هذا يجعل السليطن الموت موضوعا للضحك الصاخب والمرح المنطلق، وقد تأتى له هذا بخلط الجد بالهزل، والمدنس بالمقدس، والمتعالي بالأرضي، ومنحته السخرية تلك الطاقة المقوضة التي تواجه الدوكسا بتناقضاتها وسخافاتها فتفضحها . . بدأت حداثة الكتابة بالتهديم عن طريق السخرية، عرفنا هذا مع سيرفانتس ولورنس ستيرن ورابلي، ولعل محمد السليطن الذي لا نعرف أشياء كثيرة عنه (أتمنى العثور على نصوص أخرى له) هو الرائد العظيم للكتابة الحديثة بالمغرب. لقد جسد روح السخرية المراكشية في نص طلائعي لم يكتب مثيلا له في مراكش حتى اليوم. ندين لهذه التحفة للعلامة محمد الفاسي الذي نشرها وقدم لها في كتابه "وحي البينة" الصادر سنة 1968، والرجل الفذ أحد رجالات الحركة الوطنية، وأحد أقطاب السلفية الوطنية، له أيادي بيضاء على الثقافة الشعبية المغربية، فمَن مِن سلفيي اليوم الوهابيين، يجرؤ على أن يخرج للناس نصا كهذا؟

مشاركة :