من كان يصدق أن رئيس تحرير مجلة «الفيصل» سيتركها في أوج نجاحها وانتشارها؟ بل قادر أيضا على أن يسجل نجاحا آخر في عالم الكتاب، معمرا ومثريا للذاكرة الثقافية العربية، حتى أطلق عليه العلامة والأديب عبدالله بن خميس، لقب «أستاذ»، وهو في بداياته الصحافية. إنه الأديب علوي طه الصافي، الذي رحل مودعا الحياة صباح الأحد في جدة، عن عمر يناهز الـ80 عاما، بعد 50 عاما من العطاء، مسهما في الصحافة الثقافية، تارة كاتبا، وتارة مؤلفا للقصة القصيرة وأدب الرحلات والأطفال. بستاني في حقول الأدب والصحافةعلوي هو الغائب اليوم، الحاضر أبدا، الذي جال أقسام الصحافة الثقافية ناثرا إبداعه وسمعته الطيبة، تاركا خلفه إرثا كبيرا وآلافا من المحبين، والذكريات التي لا تزال في قلب كل من عمل معه عن قرب. كان الصافي كالبستاني الذي قطف من كل بستان زهرة، ففي مسيرته مجموعة من المحطات، فقد التحق بقسم القانون منتسبا في جامعة بيروت، وحصل على ليسانس الحقوق من بيروت، ثم على دبلوم في التربية من الجزائر، وبالمثل، عمل في أكثر من مجال، حيث عمل إخصائيا اجتماعيا في الضمان الاجتماعي، ورئيس قسم الصحافة العربية في المديرية العامة للصحافة والنشر التابعة لوزارة الإعلام، ورئيس الشعبة القانونية وتطبيق الأنظمة في المديرية العامة للمطبوعات، وسكرتيرا إعلاميا لمحمد عبده يماني وزير الإعلام. خلال مسيرته، كثير من المحطات الصحافية منذ بواكير البدايات، حينما كتب مقاله عن جبران خليل جبران في صحيفة "الرائد"، ثم كتاباته في صحيفة «قريش»، ثم في مجلتي «الجزيرة» و«اليمامة» وصحيفتي «البلاد» و«المدينة»، قبل أن يقوده حسه الأدبي إلى مجلة «الفيصل»، مؤسسا، وأول رئيس تحرير لها. لم يعرف أمه علوي طه الصافي كان أحد رواد الأدب والصحافة في المملكة، ولد في 1944 في جيزان، في بيت متواضع من الحجر، بين سبعة أولاد وبنتين، في قصة رواها ولامست قلوب كل من سمعها. لا يعرف أمه، ماتت وهو في عمر عامين، وحرص والده على أن يتعلم اللغة الإنجليزية في الابتدائية، ولعدم توافر هذا التعليم في جازان حينها، أرسله والده إلى لبنان عند خاله سالم عبدالرحمن الزين، الذي كان يتعالج هناك، في 1958. كان يقرأ الصافي في شتى العلوم، وسلاسل أدبية كانت كبيرة على سنه، شغوف بكتب المذكرات وأعمال الكبار، وفي آخر لقاءاته التلفزيونية حين شارف على الثمانين من عمره، قال في برنامج "اللقاء من الصفر" مع الإعلامي مفيد النويصر "أشعر أنني قدمت شيئا، لم أتخل عن مبادئي، وكنت ملتزما مع أسرتي، وزوجتي راضية عني، أجد سعادتي مع عائلتي"، هذا هو الصافي زوجا، الوالد لأربعة أولاد وأربع بنات. أول رئيس تحرير لمجلة «الفيصل» استقال الصافي من مجلة «الفيصل» متعبا، كان يشعر بالمسؤولية تجاه مجلته، والأمير خالد الفيصل، لكنه شعر بالتعب فترك المجلة التي رافقته لنحو 16 عاما، كان مؤسسا لها وعرابا لانتشارها الواسع ونجاحها، وتركها ليتفرغ للقراءة والكتابة والكتب. كتب الأديب الراحل برمز "مسمار" مقالات نقدية، ولازمه هذا الرمز حتى في منصات التواصل الاجتماعي، حيث اختاره ليعرف عن نفسه على "تويتر"، "مسمار".. عاش بين اﻷوراق.. ودع القلم بعد أن كان رفيق دربه لنصف قرن.. وآثر الصمت.. فلم يبق إلا صدى كلماته. كان الأديب علوي الصافي يكن حبا لرواية القصة، فألف أكثر من 50 قصة للأطفال، ومن مؤلفات الراحل: إسبانية تحسب قلبي بئر بترول، كنت.. في الطائرة المخطوفة، امرأة.. تحاور أفعى، لكل مثل قصة، قصص من التراث العربي والإنساني، من بادي الوقت.. عائد من أميركا، يا قلب.. لا تحزن، السمكة والبحر.. قضايا وقراءات، والمجموعة القصصية أرزاق يا دنيا أرزاق، وسلسلة من القصص العربية والإسلامية، وكتابه المفعم بالذكريات "هؤلاء.. مروا على جسر حياتي". ولإبداعه وإسهاماته النيرة، نال علوي الصافي تكريما في مهرجان الجنادرية الـ17، حيث منح وشاح الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى كشخصية المهرجان المكرمة، وحصد قبلها جائزة الدولة التقديرية في الأدب، ووسام تكريم وميدالية من مجلس التعاون الخليجي، وأرفع الأوسمة من البحرين، فلسطين، تونس، وفرنسا. ذاكرة ثقافية وصف الناقد الدكتور عبدالله الغذامي صديقه الصافي، بأنه كان يعمر الذاكرة الثقافية عطاء وثراء وسيرة غنية في منتجها وفي أخلاقيات سلوكنا الثقافي، وقال في مقال نشره قبل أعوام "كنت في البعثة في السبعينيات حين ظهر علوي الصافي في صحافتنا، وكان ظهوره مدويا وباهرا بعد عودته من دراسته الحقوقية، مصحوبة برصيد عميق من الثقافة والمهارة الكتابية، مع شجاعة في الفكر والتعبير، وقد عرفت هذا حين عدت من البعثة، وأخذت في متابعة مجلة «الفيصل»، حيث هو أول رئيس تحرير لها، وكانت الثمانينيات تعج ببوادر الحداثة وبوادر الصراعات التي كانت تشق طريقها وتنذر بأنها ستنفجر، وانفجرت فعلا في منتصف العقد الثمانيني، وكان علوي الصافي على درجة عالية من الحرص على جعل مجلته منبرا فكريا يتابع الجديد الثقافي، وهذا ما تحقق عمليا حيث تحولت مجلته إلى وجهة لكل من أراد مقالا جادا في مادته وراقيا في أخلاقيات الخلاف، وحصلت كتابات معمقة عن الحداثة، معها وضدها، ولم يظهر علوي موقفا منحازا إلا إلى العمل الجيد، كقانون للنشر في المجلة". وتابع الغذامي في مقاله "زادت معرفتي بعلوي مع تشاركنا في مهرجان المربد في بغداد في الثمانينيات، وعجننا السفر والتجوال في شارع المتنبي والمستنصرية، نمشي ونتحدث حتى عرف كل واحد منا صاحبه وسبره كما يسبر السفر الصحبة، وعرفت عمقه الوجداني والمعرفي وثراء ذاكرته وقصص الجيل الذي غبت عنه حين بعثتي، ولمس هذا النقص عندي عما كان يجري بين كواليس الصحافة، فانسابت نفسه بسرد أوراق المرحلة وحكايات الثقافة غير المنشورة، وزاد على هذا أن توطدت المعرفة مع كتبه التي تنوعت فكرا وبحثا وقصصا إبداعية، مع قصص للأطفال، ولقد كتبت عن قصصه وعن تجنيسه الفني والأسلوبي، ونشر دراستي كمقدمة لأحد كتبه". 4 كتب لم تطبع كان الأديب علوي الصافي يثير المعارك الأدبية الماتعة، حتى وصفه الدكتور محمد العوين، الكاتب وعضو مجلس الأمناء في مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، بأنه صاحب القلم المشاكس، الذي حرك الساكن وأثار الأسئلة وأدار الصراع بين أدب الشيوخ والشباب وأدب المرأة وغيرها، داعيا إلى جمع ما كتب باسمه والاسمين المستعارين "مسمار" و"ليلى سلمان" والردود عليها، لتبقى تلك المقالات شاهدا حيا على نمو وتطور أدبنا. وأضاف العوين، أن "الراحل ذكر في رسالة خاصة له أنه أعد أربعة كتب جاهزة للطبع، إلا أنه لا يستطيع نشرها على حسابه الخاص ولم يجد ناشرا، مهيبا بالنادي الأدبي في الرياض أن يتولى نشرها ونشر مقالاته التي لم يجمعها". توفي الراحل بعد غياب عن الصحافة والإعلام، لمرضه وحالته الصحية، تاركا لنا واحة من الأدب في مؤلفاته التي تحمل معاني عميقة، من أب محب وقاص مبدع.
مشاركة :