بقلم: عاطف الصبيحي نستهل مقالنا باقتباس من قول المستشرق النمساوي جوستاف جرو نيباوم: ما من لغة تستطيع أن تطاول اللغة العربية في شرفها، فهي الوسيلة التي اختيرت لتحمل رسالة الله النهائية، ومن يتتبع جميع اللغات لا يجد فيها -على ما سمعته- لغة تضاهي العربية.. أنا أتعمّد اقتباس المقدمات من الباحثين الغربيين، مستشرقين وغير مستشرقين، والجاذب لذلك إنصاف الباحثين الحقيقيين، وخاصة من هم خارج اللسان العربي، فلننظر في قبس صغير من القرآن الكريم الذي جعل جوستاف يُثني على العربية. يقول الله تعالى في الآية 10 من سورة الأنعام: «ولقد استُهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون».. استهزاء ثم سخرية ثم عودة للاستهزاء بنفس الآية، ومن منطلق إيماننا الكامل نكرر أنه لا يمكن أن تحل مفردة مكان مفردة وتؤدي نفس المعنى والدلالة، فكل كلمة مُسيرة لما خُلقت له، وهو انتقاء شديد الدقة، وعليه: الاستهزاء في كتب اللغة، لسان العرب كمثال تعني الاستخفاف والاستحقار والاستهانة، مُشيراً إلى عيب ما أو عيوب مما يستدعي الضحك، وتختلف أساليب الضحك بين القول والفعل والإشارة والإيماءة، ومما يجدر التنبيه إليه أنه قد يحصل الاستهزاء بدون صدور فعل يستوجب ذلك الاستهزاء. وتختلف السخرية في صدور فعل من المسخور منه، وهذا ما حدث مع أول الأنبياء نوح عليه السلام: «ويصنع الفلك وكلما مرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه» 38 هود، سيدنا نوح مشغول ومنهمك بصنع الفلك -هذا الفعل- الذي قام به عليه السلام، وردة فعل القوم السخرية مما يقوم به، لعدم استيعاب الأمر أو لكِبر في نفوسهم، وقوله تعالى: «الذين يلمزون المُطوّعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جُهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم» 79 التوبة، ويُضاف إلى السخرية خاصية أنها لم تصدر إلا من الأشخاص «فيسخرون منهم» و«سخروا منه» و«لا يسخر قوم من قوم» في حين أن الاستهزاء أعم من السخرية، فقد يكون من الأشخاص أو من الأعمال أو غير ذلك «قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون» 65 التوبة، وقوله تعالى «وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا» 58 المائدة، نلاحظ من الآيتين السابقتين أن الهزوء شمل جوانب عدة. وقف القرآن موقفاً من كليهما -السخرية والاستهزاء- ونهى عن ذلك بنصوص خالدة، لما يجلبه هذا الفعل أو ذاك من تشاحن وتباغض وتباعد وتقاطع وتدابر بين الناس، والمثال القرآني الأول هو من سورة الحجرات 11 «يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم، ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن، ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون».. نلاحظ تعميم النهي من السخرية بجميع أشكاله، وقوله تعالى في سورة الهمزة: «ويل لكل هُمزة لُمزة الذي جمع مالاً وعدّده»... ويل ووبال وشدة عذاب بانتظار جريمة الاستهزاء من الآخرين، وفي الآية 56 من الزمر يُجلي الله الندم الذي يُحيق بالنفس من جراء السخرية في الحياة الدنيا «أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرّطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين». وللرسول الكريم قول ونهي حاسم جازم لا يقبل التهاون، وفيه من شدة المعنى ما ينبغي الوقوف عنده والاتعاظ به «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه، وماله، وعرضه».. وفي حديث آخر أخرجه الإمام مسلم عن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ... «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره التقوى ها هنا»، وأشار إلى صدره ثلاث مرات.
مشاركة :