ليس الأدب الروسي الكلاسيكي بكل ما قدمه من روائع رومانسية في الشعر والقصة والرواية بعيدا عما يحدث الآن في أوكرانيا من صراع دموي وعن سياسة الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين الإقليمية والدولية، إذا ما أعدنا التأمل في أهم الكتابات المؤثرة، سنجد أنها حملت النزعة الإمبراطورية عبر عصور. رومانسية المنتصر أيقظت الحرب الأخيرة بين روسيا وأوكرانيا بكل تعقيداتها المثقفين الأوكرانيين لإعادة تقييم تاريخ متشابك من الأدب بينهم وبين روسيا، إذ لطالما كان الأدب يمثل خطابا قويا استعملته السياسات الروسية لفرض هيمنتها، بما كان يضمه من خطاب استعماري واستعلاء عرقي ما تزال ملامحه ظاهرة في الخلفية إلى اليوم. ويحمل أحد شوارع بلدة هوهوليف الواقعة شرق العاصمة الأوكرانية كييف اسم الشاعر الروسي ميخائيل ليرمنتوف، الذي عاش خلال القرن التاسع عشر. بينما الشاعر لم يزر أوكرانيا مطلقا، ولم يتطرق إلى القضايا الأوكرانية سوى في عدد قليل من قصائده. ورغم ذلك فإن العديد من الشوارع في جميع أنحاء أوكرانيا ما تزال تحمل اسم ليرمنتوف وأسماء شخصيات ثقافية روسية أخرى. وهو أمر ناتج عن تراث من الماضي الإمبراطوري السوفييتي. وتكرّم هوهوليف، التي شهدت قتالا عنيفا في مارس الماضي، أنطون تشيخوف وفلاديمير ماياكوفسكي وألكسندر بوشكين. تعدّ تسمية الشوارع في كل مدينة وبلدة وقرية أداة لتحدد إمبراطورية ما فضاءها الاستعماري وتتحكم فيه، حيث كان كل اسم روسي بارز وكأنه وسيلة لاستبعاد اسم أوكراني. وتحولت بذلك أسماء الشوارع إلى أداة هيمنة ووسيلة لمحو الذاكرة المحلية. بمجرد أن تبدأ في التدقيق ستجد الأدب الروسي الكلاسيكي مليئا بخطاب إمبريالي وبأفكار الغزو الرومانسي والقسوة لفهم السياسة الروسية الراهنة يقول الخبراء إنه يجب الرجوع إلى الأدب الروسي الذي يعتبر أفضل مرجع لتفسير الأحداث في أوكرانيا وسياسة بوتين. ورغم الأسماء الروسية الراسخة في ذاكرة الأدب العالمي، والتي لا شك في قيمتها الأدبية والفكرية وفي منجزها الرائد، فإن عظماء الأدب في روسيا لم يقف تأثيرهم عند عالم الأدب، بل أعاروا أسماءهم لمشروع بلادهم الإمبراطوري. حيث ساعدت كتاباتهم أيضا في تشكيل الأيديولوجيا الإمبراطورية الروسية وترسيخ نظرتها القومية للعالم. لنأخذ ليرمنتوف مثلا، فهو يحمل صورة محددة في الأدب الروسي ككاتب وجندي وزير نساء وشاعر رومانسي، وقد استحضر في قصائده صورا شاعرية للقوقاز، استحوذت على خياله مثل العديد من الكتاب الروس المشهورين. وقد مات في مبارزة مثله مثل الشاعر الروسي الأشهر ألكسندر بوشكين. ولكن ما يحدث اليوم في أوكرانيا دفع النقاد والأدباء الأوكرانيين ومن خلفهم كل المهتمين بعالم الأدب المتشابك مع السياسة، إلى إعادة النظر في تلك الرومانسية التي ميزت الكثير من الشعر والأدب الروسي ككل، منذ قرابة مئتي عام. فهناك شيء آخر وراء الرومانسية في أوائل القرن التاسع عشر، وهو قبضة الإمبراطورية الباردة. وكانت أشهر قصائد ليرمنتوف، متسيري أو “المبتدئ” التي ألّفها سنة 1839، قصة شاعرية لراهب قوقازي أسره ضابط روسي عندما كان صبيا. ويغرق الشعور باليأس القصيدة إذ يذكر الشاعر أن تاريخ شعب القوقاز الفخور ومجده قد اندثرا، بينما يشي حنين الشخصية الرئيسية التي تتحدث عنها القصيدة إلى الماضي الضائع بأنه ينتمي إلى الجانب المهزوم من التاريخ. وهنا نستشف ما خلف تلك الشاعرية الرقيقة والرومانسية المفعمة بالمشاعر من نظرة دونية وترسيخ للتفوق الروسي على القوميات الأخرى، التي تصور غالبا كمهزومين. ويروي ليرمنتوف في قصيدة أولانشا اغتصاب الجنود الروس الجماعي لامرأة، ولكن النص لا يبدي أي علامة واضحة على التعاطف مع الضحية. بينما تلمح قصيدة “القوقازية” إلى أن القوقازيين الحقيقيين ليسوا السكان الأصليين، بل هم الجنود الروس الذين احتلوا المنطقة في أوائل القرن التاسع عشر، تماما مثل الجنود السوفييت الذين أرسلوا لغزو أفغانستان وأطلِق عليهم مصطلح “الأفغان” بالعامية. ومثلما بنى ليرمنتوف منظورا إمبراطوريا روسيا استعماريا بشأن القوقاز، فعل بوشكين الأمر نفسه بشأن أوكرانيا. ونذكر مثال قصيدة بولتافا، التي ألّفها بوشكين عن الأوكراني إيفان مازيبا الذي تمرد ضد القيصر بطرس الأكبر حينما كان يشدد السيطرة الروسية على أوكرانيا (وقد أشار إليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخرا في خطاب حول استعادة أراضي الإمبراطورية الروسية). بالنسبة إلى الأوكرانيين، كان مازيبا رمزا للمقاومة الوطنية ضد الهيمنة الروسية وتذكيرا بأن روسيا القيصرية خرقت معاهدة القرن السابع عشر التي تحافظ على استقلال القوزاق (الأوكرانيين المستقبليين) مقابل الولاء لسكان موسكو (الروس المستقبليين). لكن بطرس نكث ببنود الصفقة بالنسبة إلى الأوكرانيين. فقد كانت أي دعوة أوكرانية للحكم الذاتي بمثابة الخيانة عند الروس، تماما كما هو الحال بالنسبة إلى بوتين الآن. ويأخذ بوشكين وجهة النظر الروسية من خلال تصوير مازيبا على أنه خائن فاسق يسكب الدم. وتقترح القصيدة أن الأوكرانيين يجب أن يشفَق عليهم ويحتقروا لكونهم “أصدقاء العصور القديمة والدموية”. خطاب مضاد إعادة كشف النزعة الإمبراطوية ونزعة التفوق في الأدب الروسي الحديث لم تتوقف عند حدود القصائد التي كتبها أهم الشعراء الروس، إذ سنجد نفس الرسالة في رواية الكاتب الروسي نيكولاي غوغول التاريخية والرومانسية الشهيرة عن أوكرانيا “تاراس بولبا”. فعندما ربط غوغول، الأوكراني بالولادة، هويته بالإمبراطورية الروسية، كرّس موهبته لإثبات أن الزمن عفا عن كل ما هو أوكراني “متوحش”. وبحسب الكاتب كان يجب على الأوكرانيين فهم الإمبراطورية الروسية حتى يصبحوا متحضرين. وتوجد بالطبع طريقة بديلة للنظر إلى الأشياء، فبعد سنوات قليلة من صياغة غوغول وبوشكين لصورتيهما عن القوزاق الأوكرانيين كجزء من ماض متوحش عفا عليه الزمن، كان الشاعر والرسام والبطل القومي الأوكراني تاراس شيفتشينكو يخبر الشعب بأن روح القوزاق المعادية للاستبداد والديمقراطية البدائية لم تكن من بقايا الماضي، ولكنها إشارة إلى المستقبل. كانت نظرة شيفتشينكو إلى القوقاز مختلفة عن وجهة نظر ليرمنتوف، فلم ترسخ نصوصه مشهدا شاعريا محت فيه الهيمنة الروسية الرومانسية التاريخ، ولكنها صوّرت مشهدا دراميا أنتج فيه العنف الإمبراطوري أنهارا من الدماء ومقاومة قوية. هنا نجد أنفسنا أمام خطاب نقيض، حيث كان الأدب وسيلة مواجهة قوية ضد الاستعمار والمحو ومحاولة للتحرر وإثبات الذات والتأكيد على تاريخها ورفضا للهيمنة والفوقية التي تكرسها خطابات المنتصر ضد المنهزم. ويأتي شعار شيفتشينكو الأيقوني للتمرد ضد الاستبداد “قاتل، وستنتصر” من قصيدته كافكاز (القوقاز) وينطبق هذا بنفس القدر على النضالات القوقازية والأوكرانية ضد الهيمنة الروسية. ففي حين أن قوقاز ليرمنتوف ناصع البياض، ومثلج، وبعيد عن المعاناة الإنسانية، فإن قوقاز شيفتشينكو ملطخ بالدماء ومنغمس في معركة الإنسانية من أجل الحرية. عظماء الأدب في روسيا لم يقف تأثيرهم عند عالم الأدب، بل أعاروا أسماءهم لمشروع بلادهم الإمبراطوري فإن كتب ليرمنتوف قصيدة عن الاغتصاب الجماعي من منظور الجناة الروس، صور شيفتشينكو “المرأة التي سقطت”. وتقارن قصيدته الدينية الاستفزازية مارييا (ماري) بين هذه المرأة التي تحمل في بطنها طفلا غير شرعي من جندي روسي ربما اغتصبها ووالدة يسوع بصفتهما أمّين وحيدتين تعانيان المشقة. وكان التعاطف مع النساء اللاتي عانين العنف الجنسي هو رد شيفتشينكو على شعر ليرمنتوف حيث يكون الجاني في كلتا الحالتين روسيا والضحية امرأة محتلّة. بمجرد أن تبدأ في التدقيق في أمثلة أخرى، ستجد الأدب الروسي مليئا بخطاب إمبريالي، والغزو الرومانسي والقسوة، والصمت بشأن العواقب. وتبدو أوجه التشابه بين الماضي وسياسات الغزو الروسية اليوم عميقة وواسعة، وتكفي قراءة جديدة بأعين مختلفة للأدب الروسي المؤسس لنفهم جذور هذه النزعات. ولا يوضح كثير من الكتاب الروس ظاهرة عداء روسيا للغرب وأفكاره بشكل أفضل من الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي، الذي تحول من الراديكالية الاشتراكية في شبابه إلى الأصولية الدينية في وقت لاحق من حياته، وقال يوما إن الاشتراكيين والشيوعيين الروس “ليسوا أوروبيين” و”سينتهي بهم الأمر روسيين حقيقيين”، أي برفض الغرب. ووصف دوستويفسكي في رواية “الشياطين” الأفكار الغربية بأنها إغراءات “شيطانية” يجب إدانتها. وإن تبنى بعض الكتاب الروس الأفكار الغربية، فإن أغلبهم حافظ على منظورهم القومي والإمبريالي، الذي ساعد في قيادة روسيا إلى المزيد من الاستبداد، فتحولت بذلك حتى الأفكار التقدمية الغربية نفسها إلى استبداد جديد وأقوى على الأراضي الروسية، سواء في عهد بطرس الأكبر أو البلاشفة. وتستمر كل هذه التوجهات إلى اليوم إذ تجد غالبا أن لمعظم السياسات الروسية اليوم أسسا فكرية في الأدب الكلاسيكي الروسي ومواقف كتّابه من مستعمرات الإمبراطورية وغزواتها. وحتى يومنا هذا، يقول هؤلاء المؤلفون الروس إنه لا يوجد شيء يُحترم في الأراضي التي يحتلها الجنود الروس. لذلك، إذا كنت تبحث عن جذور عنف روسيا ضد جيرانها، ورغبتها في محو تاريخهم، ورفضها لأفكار الديمقراطية الليبرالية، فستجد بعض الإجابات على صفحات بوشكين وليرمنتوف ودوستويفسكي.
مشاركة :