أصحاب العوامات النيلية يغادرون بأمر حكومي إلى المجهول

  • 7/1/2022
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

قبل تسع سنوات استقر الحال بالأديبة أهداف سويف للإقامة في سفينة ثابتة، أو عوّامة في الخطاب المصري الدارج، ترسو بصفة دائمة على ضفة النيل في حي إمبابة بمحافظة الجيزة التابعة للقاهرة الكبرى. قامت سويف بشراء العوّامة والحصول على تراخيص الإقامة فيها كمقر سكني، لكن حياتها، وحياة سكان نحو 32 عوّامة أخرى، انقلبت رأسا على عقب بعد أن قررت الحكومة إزالة جميع العوّامات السكنية الراسية على إحدى ضفاف النيل، ما أثار غضبا تحول سريعا إلى حالة ثقافية وتاريخية وسياسية على مواقع التواصل الاجتماعي. ارتبط الجدل المجتمعي بأن العوّامات النيلية تمثل بالنسبة إلى كثير من سكان القاهرة جزءا من الإرث الثقافي للعاصمة المتجذر في عقول أجيال عديدة، لا يتخيل أغلب الرافضين لقرار الإزالة أن يستيقظوا يوما ولا يجدونها محتضنة مياه النيل. ويقول الرافضون للإزالة إن العوامات جزء من تاريخ القاهرة في العصر الحديث، حيث شهدت أحداثا ثقافية واجتماعية كبرى على مدار عقود طويلة. يبدي قاطنو العوّامات ارتيابا من دوافع الإزالة والمبررات التي ترددها مؤسسات رسمية بحجة أن سكانها خالفوا شروط الإقامة وتسببوا في أضرار كبيرة لنهر النيل، ورفضوا تجديد تراخيص الإقامة السكنية أو الالتزام بأداء ما عليهم من مستحقات مالية لوزارة الموارد المائية، وهي الجهة المسؤولة عن مجرى النهر. كشفت الأديبة أهداف سويف لـ”العرب” أن “السكان حاولوا الحصول على التصاريح ولم يجدوا تجاوبا من الأجهزة المعنية، ومنذ عامين هناك تعطيل حكومي متعمد، وكأن شيئا يجري ترتيبه في الخفاء بهدف إعادة استغلال المنطقة في أهداف تجارية”. وأكد عضو مجلس إدارة أحد الأندية العريقة الواقعة على النيل، رفض ذكر اسمه، أن هناك زيادات كبيرة طالت الرسوم التي تدفع للدولة، وأن تبعية السفن الراسية باستمرار وتستخدم كمطاعم والأندية والعوّامات انتقلت إلى الهيئة الهندسية التابعة للقوات المسلحة المصرية، والتي تمهد لتكرار مشروع ممشى مصر الذي جرى تنفيذه على الضفة المقابلة في القاهرة. وأوضح لـ"العرب" أنه تلقى ما يشبه التعليمات بضرورة نقل مقر نادي التجديف إلى مكان آخر، وهو أعرق الأندية على النيل ويعود تاريخه إلى عهد الملك فاروق الأول الذي أزاحه ضباط ثورة يوليو عام 1952 من الحكم. شكوك وأهداف مجهولة كنز كما يراه أهلها وجب الحفاظ عليه كنز كما يراه أهلها وفق العديد من الدراسات التي تحدثت عن العوّامات النيلية، وصل عددها إلى نحو 500 عوّامة في ستينات القرن الماضي، وأصدر وزير الداخلية المصري آنذاك زكريا محيي الدين، قرارا بنقل كل العوّامات الواقعة على ضفاف النيل من حي الزمالك وحي العجوزة إلى منطقتي إمبابة والكيت كات بعيدا عن المنطقة القريبة من وسط القاهرة بحجة أنها تشغل مسطحا كبيرا من النهر. مع عملية النقل وغياب الترميم المستمر، حيث غالبيتها شيدت من الخشب، طالتها يد الإهمال ولم يتبق منها سوى 32 عوامة حاليا، يراها البعض كنزا يجب الحفاظ عليه. وأضافت أهداف سويف لـ“العرب” أن سكان العوّامات لا يتخيلون ابتعادهم عن النيل مهما كانت الأسباب، فهو صديقهم الوحيد، وحياتهم ارتبطت به، خاصة وأن المصريين يرتبطون بهذا المجرى المائي رباطا يصل إلى حد التقديس. يعتبر سكان العوّامات أن وجودهم فيها هو الذي يهوّن عليهم كل شيء في الدنيا ويضمن لهم راحة نفسية بعيدا عن صراعات وضغوطات الحياة البرية. وقالت سويف "لك أن تتخيل حياتك في الماء ثم فجأة تجد نفسك تعيش على اليابسة، قطعا ستشعر بأن الحياة تأخذك إلى مصير مجهول، كأنك تموت ببطء". ولا يقل الغضب الذي يكسو وجوه سكان العوامات النيلية حدة عن تلك المرارة التي يشعر بها الكثير ممن عاصروا هذه السفن الصغيرة الثابتة التي تطفو فوق النهر، وترسو على ضفافه لتشكل لوحة فنية بمظهرها الجمالي وتصميمها الجذاب، بينما تصطف سفن أخرى ضخمة على ضفتي النيل في القاهرة والجيزة ولم يقترب منها أحد من المسؤولين، أو يطالها التفكير في الإزالة، ناهيك عن المباني الخرسانية والأندية التي تحجب رؤية النهر وتشوه مظهره الحضاري. ◙ للعوامات حضور في الأدب والسينما منذ الخمسينات مثل "ثرثرة فوق النيل" وفيلم عبدالحليم حافظ "أيام وليالي" منذ انتشرت صور المعدات الضخمة التي خصصتها وزارة الموارد المائية لإزالة العوامات النيلية، دشن مصريون حملة إلكترونية ضد القرار، ليس لمساندة أصحابها بل دفاعا عن جزء من تاريخ النيل، لكن حملة الإزالة بدأت فعلا وتم التخلص من 15 عوّامة، في انتظار رحيل باقي السكان إلى مكان آخر لتلقى عواماتهم نفس المصير. ما أثار شكوك المتابعين لهذا القرار أن وزارة المواد المائية بدت مرتبكة أمام تفسير ما يحدث تجاه العوامات النيلية، فتقول إن سبب الإزالة هو مخالفة شروط الترخيص، وهو ما نفاه السكان مؤكدين أن الجهات الرسمية رفضت منح الترخيص خلال العامين الماضيين، وأشار مسؤولون تابعون لإدارة حماية نهر النيل إلى ما وصفوه بـ”إعادة هيكلة المظهر الحضاري لنهر النيل” وما تمثله منطقة العوّامات من قيمة سياحية. ترى الحكومة أن العوّامات السكنية تضر بالمظهر الحضاري، وهو تبرير غير مقنع لأصحابها ومردود عليها، حيث تمثل العوامات أحد مظاهر الزينة للنهر، وتعبر عن تراث عريق وممتد، ولو كانت بالفعل مشوهة للنيل فما هومصير السفن التي ترسو وتحفل بضجيج روادها، وتحجب الرؤية عن النهر ومع ذلك تحصل على تراخيص سياحية منذ سنوات ولا توجد مضايقات لأصحابها، فلماذا لم تقترب وزارة الموارد المائية وهيئة المسطحات منها؟ وينطق لسان حال الناس يقول، “إذا كانت العوّامات الصغيرة مضرة بالمظهر الحضاري، فلماذا تصمت الحكومة على المطاعم والمقاهي والأندية؟”. وتعتقد سهير حواس المشرفة على مشروع تطوير القاهرة الخديوية، وعضو هيئة التنسيق الحضاري، أن نهر النيل يعاني من مشاهد القبح والمخالفات والمباني التي تزحف على ضفتيه بشكل سيء، وهناك مبان لأندية رياضية ومؤسسات بنكية واجتماعية وكازينوهات للسهر، تم تأسيسها بشكل يخالف كل القوانين التي تحمي النيل من التعديات، وجميعها يحرم العين من التمتع بجمال النهر في ليل القاهرة الكبرى. وذكرت لـ"العرب" أن العوّامات النيلية لها قيمة ثقافية ورمزية تاريخية، وكان من المفترض قبل اتخاذ قرار الإزالة أن يتم التشاور مع الهيئة المعنية بالتنسيق الحضاري واستطلاع رأيها في كيفية التعامل مع قضية العوّامات ومعالجة سلبياتها، لأنها تستحق أن تصبح متحفا فنيا ومزارا سياحيا لما لها من قيمة عميقة في وجدان المصريين. وتتمسك حواس بأن العوامات النيلية أحد معالم القاهرة الكبرى، وسكنها عدد من عمالقة الفن والأدب وكبار رجال السياسة والمفكرين والكتاب، بينهم نجيب محفوظ الذي كتب فيها أغلب رواياته، ودارت فيها أحداث روايته الشهيرة “ثرثرة فوق النيل”. قبح ومخالفات وتفرقة جزء من المشهد الجمالي للعاصمة جزء من المشهد الجمالي للعاصمة وكانت ولا تزال جزءا أصيلا من المشهد الجمالي للعاصمة القاهرة، ويتذكرها كل من شاهد بعض الأفلام السينمائية التي صورت في بعضها، حيث احتضنت حكايات عدة، ما يصعّب حصر الوقائع الاجتماعية والسياسية والعاطفية التي دارت في العوّامات. من أشهر العوامات النيلية، تلك التي كان يمتلكها فنانون كبار، مثل نجيب الريحاني، وفريد الأطرش، ومحمد الكحلاوي، ومنيرة المهدية، ومحمد عبدالمطلب، وتحية كاريوكا، وحكمت فهمي، وسامية جمال، حتى أصبحت القاهرة على موعد مع فقدان أحد أهم عوالمها النيلية، عالم العوّامات. يقول متابعون للأزمة إن الحكومة تريد إزالة العوامات لتحويلها إلى مطاعم تدر دخلا ماليا أكبر، وإنها ساقت العديد من الحجج لأنها لا تستطيع الإفصاح عن السبب الحقيقي. وفي فيديو نشرته الأديبة أهداف سويف، والتي تتصدر المتحدثين باسم ملاك العوّامات، على صفحتها الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، قالت “الحكومة اقترحت علينا تغيير نشاط العوّامات من سكني إلى تجاري أو سياحي للإبقاء عليها، وهذا غير مقبول، لأنه ليس هناك عاقل يترك منزله وبيئته التي نشأ فيها، لمجرد أن يقوم بتحويل منزله إلى مقهى سياحي، أو مطعم". ◙ الحكومة تريد إزالة العوامات لتحويلها إلى مطاعم تدر دخلا ماليا أكبر، وساقت العديد من الحجج لأنها لا تستطيع الإفصاح عن السبب الحقيقي وأشارت سويف لـ"العرب" إلى أن التعاطف الشعبي مع أصحاب العوّامات النيلية هو السبيل الوحيد للضغط على الجهات المسؤولة عن قرار الإزالة ودفعها للتراجع عنه، أو منح السكان فرصة لترتيب أوضاعهم بعد الرحيل عن النهر، فهم بلا مأوى، قائلة “وقت أن يأتوا لإزالة عوامتي سأجلس على سطحها لأودعها بطريقتي الخاصة”. أمام تمسك الحكومة بموقفها بتنفيذ الإزالة وجه أصحاب العوّامات استغاثة إلى الرئيس عبدالفتاح السيسي قالوا فيها: “ولدنا في هذه العوّامات وأمضينا فيها أعمارنا من الطفولة إلى الشيخوخة، وكلنا نتخذها سكنا وأسلوب حياة، وبذلنا لها وأنفقنا عليها ما ينفقه كل من يقدر على بيت يحبه.. ندرك تماما أن هذه العوّامات تراث ثقافي وحضاري وسياسي فريد لمدينتنا الفاضلة، ومعلم من معالم بلادنا، ونحافظ عليها ونعمرها انطلاقا من هذا الإدراك.. أرجوك تدخل لوقف هذا التعسف”. حسب معلومات حصلت عليها “العرب” فإن المخطط لضفتي نيل القاهرة يرمي إلى أن تتحول الجهتان الشرقية والغربية إلى ممشى سياحي لعموم المصريين، لا أن تكون المنطقة حكرا على شريحة بعينها من السكان، وترغب الحكومة في تحويل الضفتين إلى مقصد أو مزار جاذب للمواطنين المحليين أو السياح على أن تكون المنطقة متنفسا للبسطاء ومحدودي الدخل الذين حُرموا من دخول المنتزهات الخاصة أو الأندية الشعبية التي يتطلب الاستمتاع بها توفير مبالغ مالية باهظة. نفذت الحكومة المرحلة الأولى من “ممشى أهل مصر” على الضفة الشرقية من نهرالنيل، القريب من مقر اتحاد الإذاعة والتلفزيون ومقر وزارة الخارجية وحتى كوبري قصر النيل. ووفق المعلن من جانب الجهة المنفذة، فإن الدولة تسعى إلى زيادة المساحات المفتوحة للتنزه عبر الاستفادة من مقومات السياحة الطبيعية التي تمتلكها مصر لتكون لديها نقلة حضارية في المجال السياحي، على أن يستهدف المشروع قطاعا عريضا من سكان القاهرة الكبرى، مقدما لهم رؤية جديدة لكورنيش النيل بصورة لم يعهدوها من قبل. ممشى أهل مصر الاستثمار بدل السكن الاستثمار بدل السكن يطال مشروع “ممشى أهل مصر” المخطط له أن يكون على ضفتي النيل، المنطقة الواقعة بها العوّامات وأن يتم تغيير المظهر العام لكل المناطق المطلة على نهر النيل لمواكبة رؤية مصر 2030 حول التنمية المستدامة وتوسيع المساحات الخضراء، وتكون هناك أماكن مخصصة للدراجات الهوائية للتشجيع على ممارسة الرياضة وتقليل استخدام المركبات وتخفيف زحام السيارات في أوقات الذروة، وزيادة أماكن الجذب السياحي النهري بتنشيط السياحة المائية عبر الاستفادة من موقع مصر المطل على نهر النيل. من المقرر أن يغطي المشروع، مناطق إمبابة، شبرا، التحرير، الزمالك، أي أن الأسباب الخفية لإزالة العوامات النيلية تكمن في تحويل ضفتي النهر إلى مزار سياحي، يحقق للدولة دخلا اقتصاديا، ويضفي على القاهرة الكبرى بريقا من خلال توظيف الموقع الاستراتيجي للنيل، ما من شأنه أن يطال البواخر السياحية أيضا لأنها عائق أمام المشروع، فالحكومة لن تقبل أن تحتكر مجموعة من المستثمرين أهم بقعة على نهر النيل لحسابهم الخاص، ولو دفعوا ما عليهم من مستحقات مالية. ◙ الأسباب الخفية لإزالة العوامات النيلية وطرد متساكنيها تكمن في تحويل ضفتي النهر إلى مزار سياحي أزمة الحكومة أنها تفتقد تقديم الخطاب المقنع للناس عند أي مشكلة لها أبعاد جماهيرية، فهي تبدو غير صريحة، مع أن بإمكانها أن يكون خلفها ظهير شعبي قوي إذا تحدثت بواقعية عن طبيعة الأزمة وأبعادها وما تخطط له بالضبط، فالأغلبية أشادت بما أنجزته الهيئة الهندسية للقوات المسلحة في مشروع “ممشى أهل مصر” بعدما صار متنفسا لكل فئات المجتمع من دون مقابل مادي، والآن تسعى إلى توسعة المشروع من خلال إزالة العوّامات، لكنها تخفي التفاصيل وتتحدث عن مخالفات قديمة. سمحت المبررات الواهية في منطقها بطرح تساؤلات كثيرة حول غياب الحكومة طوال الفترة الماضية وعدم تحركها للحصول على حقها المادي من قاطني العوّامات النيلية، ولماذا تساهلت أو تخاذلت الجهات المعنية بملف نهر النيل عن القيام بدورها في تحصيل المستحقات المالية نظير المخالفات التي قام بها أصحاب العوّامات. ويرى متابعون للأزمة أن حالة الغضب التي تصاعدت على وقع تحرك الحكومة لإزالة العوّامات تبدو منطقية، طالما أن هناك غيابا للشفافية والمصارحة مقابل التضارب في التصريحات والمبررات والدوافع، في حين أن الهدف الخفي قد يجد تأييدا وفوائده السياحية والترفيهية كبيرة، لكن الحكومة مصرة على أن تخلق فجوات جديدة بينها والمواطنين الشارع.

مشاركة :