يقول بريجنسكي في كتابه "رؤية استراتيجية: أميركا وأزمة قوى العولمة": إن روسيا ليست دولة عظمى من دون أوكرانيا. وكأنه يشير في نظريته تلك إلى أن الصراع في أوكرانيا، إن وجد (حيث إنّ إصدار كتابه كان في 2012) فهو صراع وجودي، وليس هدفاً استراتيجياً، بخلاف "مغامرة" بوتين في سوريا مثلا. منذ أقل من شهر، ضرب الروس قاعدة التنف في سوريا، في أول استهداف لقاعدة أميركية، لكنّ أي ضجة بحجم الحدث لم تكن. عاد بوتين ولوح بمواجهة عسكرية محتملة لكنّ أي رد بما يوازي حجم الحاصل لم يحدث. كل ما نقلته وسائل إعلام أميركية عن الجنرال "إيريك كوريلا" قائد القيادة الأميركية الوسطى، قوله "إن الولايات المتحدة تسعى لتجنب أي خطأ في الحسابات أو خطوات من شأنها أن تؤدي إلى نزاع غير ضروري في سوريا". يعتمد كثيرون في تفسيرهم لعدم مواجهة الأميركيين لبوتين مباشرة، على أرضية في التحليل تنطلق من أن الديمقراطيين هم "أهل الاحتواء" وسيكتفون بمحاصرة الرئيس الروسي وانتظار نتائج ذلك في الآجال الطويلة. لكن الأمر لا يتوقف عند هذا التفصيل بل يصل حدّ أوروبا التي قصمت العملية الروسية في أوكرانيا ظهرها "اقتصاديا" على الأقل. فبنظرة سريعة إلى صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا خلال السنوات الماضية يتبيّن أن موسكو كانت تورد الغاز بكميات تكفي الحاجة أو أقل قليلاً، في سياسة استباقية انتهجها بوتين على ما يبدو ليهندس بعناية لحظته الحالية ويحرم أوروبا لسنوات من أي فائض قد ينقذها اليوم. ومن ثم فقد أتت العقوبات على بوتين عقاباً جماعيا على اقتصادات الغرب أميركيا وأوروبيا من دون أن تطال بشكل كبير الاقتصاد الروسي "المحصّن". أما في طوايا السياسة فيُطرح تساؤل حول عدم تهيؤ الغرب لما كان يجهز له بوتين منذ مؤتمر ميونخ 2004 إذ كان واضحا آنذاك عندما تحدث عن تحديث جيشه، وبعدها لم يُخفِ بوتين انزعاجه من الناتو الذي بحسب ما قال الرئيس الروسي "كان يدرب كتية آزوف منذ 2014 " والتي تنضوي تحتها قيادات إرهابية وفق تصنيف الكونغرس. من جملة ما يسأل اليوم: هل تغافلت مراكز الأبحاث في واشنطن أن تعود إلى وثيقة الأمن الروسي التي صدرت عام 2021 والتي أقرت بأنه يجب على روسيا استعادة وضعها الإقليمي بما أن الغرب - بحسب تقديراتها - يتراجع. وأكثر من ذلك فقد أُفردت ميزانية بوتين لهذا الغرض بحسب وثائق الكرملين وكانت 20 مليار دولار، وأهم أغراضها تحسين الولوج البحري في القطب الشمالي. يرد الغرب على لسان سياسييه في كل مناسبة ومع كل مستجد، بأن كل ما حدث مقصود وأن انضواء السويد وفنلندا وانبعاث الحياة في الناتو والمزيد من محاصرة روسيا هو المطلوب لجهة تطويع روسيا في المدى المتوسط والطويل وهكذا فإن بوتين قد جُرّ فعلاً إلى هذا كله، وهكذا سيخفف الغرب من وطأة المغامرة البوتينية "الوجودية" إن صح ما قاله بريجينسكي. وأما محاولات حفظ ماء وجهه من قبل ماكرون وشولتز وترددهما في قطع شعرة معاوية معه ليست إلا وجهاً جديداً للسياسة الغربية الجديدة إزاء روسيا والأحلاف المحتملة التي يمكن أن تنشأ بعد حركتها تلك في أوكرانيا. بعيداً عن كل ذلك، أين أوكرانيا؟ ذات الجيش الكبير بعديده وعتاده. هل تركت لمصيرها في الحرب؟ وهل تم ما أرادته روسيا من تدمير بنية تحتية عسكرية وسلاح "ناتوي" كانت تراكمه كييف على مدار عشرة أعوام؟ وماذا عن الأميركيين وتهديداتهم بأنهم لن يسمحوا لبوتين دخول كييف؟ رغم أنّه لم يرد في تصريحات الروس وأهدافهم المعلنة على الأقل هذا "الهدف". يُسأل أيضاً عن الدونباس وتبعات انفصالها وتقدم الروس فيها، إضافة للاستعصاء في توريد الحبوب والثمن الذي سيؤلم أوكرانيا والجميع. يمكن غض النظر عن العملية الروسية وتجهيز بوتين لها وورطة أوروبا "بمجال الطاقة حين نمر على الهدف الذي ترنو إليه عيون واشنطن. فقد نظرت الأخيرة بعيداً منذ أن سحبت صواريخ دفاعية من الخليج 2021 ومن ثم ألغت صفقة الغواصات الأسترالية الفرنسية الموقعة 2016 وتحالفت مع بريطانيا وأستراليا. طريق طويل ما مشى فيه الأميركيون إلا للتحضير للمعركة مع الصين والتي لن يؤثر فيها أو عليها شهر خامس أو سادس أو حتى أعوام من العملية الروسية في أوكرانيا.
مشاركة :