يستفز حزب الله إسرائيل ويبعث إليها برسائل تهديد مباشرة في ما يتعلق بالنزاع البحري الذي يجري التفاوض حوله. لكنه في المقابل يمنح حليفه الرئيس اللبناني تفويضا للتنازل والتفاوض وفق شروط يعرفها الطرفان المتفاوضان وتخدم مصالحهما، وهو لا ينفك يستعرض قواه ليغطي على الأوضاع الصعبة التي قاد البلاد إليها، غير آبه بإمكانية جرّ لبنان نحو مواجهة مع إسرائيل ستضاعف من أزمات البلد المنهك. يفترض حزب الله في لبنان أن أعماله الاستعراضية يمكن أن تخيف إسرائيل، فأرسل ثلاث طائرات مسيرة، غير مسلحة، لعلها تلتقط صورا لحقل كاريش في المتوسط. المُسيرات أسقطت. وقال الحزب إن “الرسالة وصلت” على اعتبار أنه قادر على توجيه ضربات للحقل. وما كان حزب الله بحاجة إلى إبلاغ إسرائيل برسائل تعرفها. وهي ليست بحاجة إلى أن تبلغه برسائل يعرفها. الطرفان يعرفان بعضهما جيدا، ويعرف كل منهما عواقب ما يمكن أن يفعل الآخر، سوى أن “تبادل الرسائل” غير ضروري طالما أن هناك وسيطا أميركيا بين الطرفين، وطالما أن الرئيس ميشال عون اقترح عليه خارطة جديدة تنازل بموجبها عن المطالبة بحدود بحرية تصل إلى الخط 29، بل طالما أن أعمال التنقيب في حقل كاريش تجري جنوب الخط 29 أصلا. تفويض لخارطة متعرجة يجري التفاوض على أساس بسيط يتجاهل الخطين 23 و29 اللذين يدور حولهما النزاع، لكي يضمن للبنان كامل حقل قانا الذي يمتد جزء منه جنوب الخط 23، ويعطي إسرائيل كامل حقل كاريش الذي يمتد جزء منه شمال الخط 29. وقدم الرئيس ميشال عون، بتفويض من حزب الله، للوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين خارطة متعرجة تعطي لإسرائيل حقل كاريش، وتعطي للبنان حقل قانا. اعتبرت أوساط الرئيس عون، بتفويض من حزب الله أيضا، أن مد الحدود البحرية للبنان إلى الخط 29 كان مجرد تمرين تفاوضي لتحسين الشروط، لاسيما وأن المرسوم رقم 6433 الذي يقترح تعديل الحدود اللبنانية لم يُرسل إلى الأمم المتحدة أصلا ليقول إن هذه هي حدود لبنان البحرية. كما يستطيع الناظر إلى الخط أن يرى بوضوح أنه يميل جنوبا على نحو مفتعل. ولا يأخذ بزاوية امتداد متساوية من الجهتين. Thumbnail وجعل التنازل عن الخط 29، والاعتراف المسبق بأنه خط تفاوضي، النزاع ينحصر، بموجب ذلك التفويض المسبق، حول ما إذا كان لبنان يستطيع الاستفادة من كامل حقل قانا، أو ما إذا كان يمكن لإسرائيل أن تكون شريكا فيه. لكن إسرائيل رفضت العرض اللبناني. فلم يجد حزب الله سبيلا للتفاوض إلا عن طريق رسائل التهديد. ويمكن القول إن التنازل عن “الخط التفاوضي” هو الذي وفر لإسرائيل الفرصة للرفض، من دون حاجة إلى الاعتبارات “الطوبوغرافية” الأخرى. ما يجعل “رسائل” حزب الله لا تحمل أي دلالات منطقية. وهي تهدد المفاوضات أصلا، من دون مبرر معقول. وتهديد حقل غاز كاريش، هو في النهاية تهديد مباشر لأمن إسرائيل، وبالنظر إلى أهميته الاقتصادية الفائقة، فإن توجيه أي ضربات له سوف تؤذن باندلاع حرب. وقد يمتلك لبنان أسبابا جديرة بالاعتبار لتوجيه تهديدات أو ضربات، لو أن إسرائيل قامت بعمليات تنقيب في جنوب حقل قانا، حتى ولو جرت تلك العمليات جنوب الخط 23. إنما على اعتبار أن الحقل “مشترك”، ولا يجوز لأحد أن يبدأ استغلاله من دون موافقة الطرف الآخر. ولكن حقل كاريش شيء مختلف. فهذا الحقل لا يدخل ضمن مفهوم “التنازع” بموجب خارطة الرئيس عون نفسها، وليس فقط بموجب الخط الرسمي المسجل لدى الأمم المتحدة لحدود لبنان البحرية، وهو الخط 23. استعراضات فارغة يريد حزب الله في الواقع أن يمارس استعراضات يعرف أنها فارغة. كما يريد أن يمارس مزايدات وطنية فارغة أيضا. وحاول حزب الله مرارا أن يجر إسرائيل إلى نزاع لكي يغطي على الأزمة التي دفع لبنان إليها. إلا أن إسرائيل امتنعت عن التورط بطلب من الولايات المتحدة كي لا يغرق لبنان بأزمة إنسانية واقتصادية مضاعفة. كما أن الظروف الراهنة ليست أفضل، بل إنها أسوأ بكثير مما كانت عليه عقب انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس العام 2020، ما يجعل الاستعراضات العسكرية أكثر من مجرد “رسائل” للتعبير عن مستوى اللامسؤولية التي يمارسها الحزب باستخدام سلاح غير شرعي ويتجاوز الإطار التفاوضي الذي تمارسه سلطة الرئيس عون. حزب الله يبعث برسائل تهديد، لأن أسوأ ما يمكن أن يحصل، سوف يحصل على حساب الآخرين في لبنان وقبل استئناف التفاوض بوساطة هوكشتاين قال أمين عام حزب الله حسن نصرالله إن حزبه لن “يقف مكتوف الأيدي”. ولكنه لم يقل إلى أين يريد ليده أن تمتد، طالما أن الخط 29 هو مجرد تمرين تفاوضي، وطالما أنه يعرف تكلفة افتعال نزاع مسلح في ظل أزمة اقتصادية تسحق 90 في المئة من اللبنانيين، وأخرى سياسية تجعل بلادهم تعوم في حالة من الفراغ، تشبه انعدام الجاذبية في مركبة فضائية تائهة في الكون الفسيح. هذه المركبة التي قادها تحالف الثنائي الشيعي والرئيس عون لا تملك وقودا لتعود إلى الأرض، كما لا تملك ما يُبرر تقديم النجدة لها. الانشغال بالنزاع مع إسرائيل وتحويله إلى مادة للاستعراضات السياسية، هو نفسه لا ينطوي على أي مستوى من مشاعر المسؤولية. فلبنان يحتاج إلى أن يعالج مشكلاته المباشرة أولا، قبل أن يستعيض عن النظر إليها بقضية قد تحتاج إلى سنوات لمعالجتها. وتبدو الاستفادة من حقل قانا نفسه وكأنها نوع من زراعة الأوهام في الظروف الراهنة. من ناحية، لأن أعمال التنقيب والاستخراج تحتاج إلى وقت يتراوح بين عام وعامين، بينما لبنان لا يملك تغطية متطلبات الإنفاق الحكومي لثلاثة أشهر. ومن ناحية أخرى، لأن إسرائيل يمكن أن تستغل “رسائل” حزب الله لتعطيل هذه الاستفادة. ولا يجهل حزب الله الواقع. كما لا يجهل الأولويات التي يتعين البدء بها. ولكنه يمارس الاستعراضات ويفتعل المزايدات للدلالة على أنه يعيش في عالم خاص به، ولا يهمه ما يمكن أن يحصل للبنان. دولته الموازية لا تعاني ما يعانيه اللبنانيون الآخرون. وعلى هذا الأساس، فإنه يبعث برسائل تهديد، لأن أسوأ ما يمكن أن يحصل، سوف يحصل على حساب الآخرين في لبنان وليس على حسابه هو. وهو يهين الدولة عندما يمنحها التفويض، وعندما يستبدله بتوجيه رسائل التهديد. ولعله يريد القول إنه يحركها ويتحكم بها كما يتحكم بدمية. فإذا ذهبت إلى الجحيم، فإن أصابعه لن تصاب بسوء.
مشاركة :