يؤكد خبراء التسويق وجود ظاهرة تدعى تأثير البومرنغ (Boomerang Effect) وهي ظاهرة اجتماعية تحدث حين تقدم رسالة مقنعة للأفراد ثم يتخذون موقفا معاكسا لها أي أنهم يرتدون إلى الموقف المعاكس لمضمون الرسالة فمن وجهة نظر الخبراء إن العميل يتجه لشراء منتج بديل أو المنتجات المنافسة عندما يشعر بأن العبارات التسويقية تمس حريته بالاختيار فمثلا في حال وجود لافتة في الشارع تتضمن جملة «يجب عليك التخلص من القمامة» فمن المرجح ألا تؤدي هدفها مقارنة باستخدام عبارة أكثر لطفا مثل «الرجاء التخلص من القمامة». وما يحدث في السياسة الخارجية الأمريكية الحالية أشبه كثيرا بتأثير البومرينغ فعلى صعيد الحرب الأوكرانية لم تستطع إدارة بايدن احتواء الأزمة الروسية - الأوكرانية ولا سيما في ملاحظة بايدن غير الرسمية عندما قال: «إن بوتين لا يمكنه البقاء في السلطة» وهذا قد يجعل من الصعب إنهاء الحرب في أوكرانيا. قال هنري كيسنجر (البالغ من العمر 99 عامًا) مؤخرا معلقًا على غزو روسيا لأوكرانيا «نحن نعيش الآن حقبة جديدة تمامًا» وإدارة بايدن فرضت عقوبات اقتصادية هي الأشد منذ الحرب العالمية الثانية على دولة عظمى كروسيا وما يميز هذه العقوبات بأن نيتها تهدف إلى تغيير السياسة الروسية وليس تغيير النظام لذلك يمكن أن تكون أكثر فعالية ولا تشبه العقوبات السابقة التي فرضتها واشنطن على دول مثل سوريا وفنزويلا وكوريا الشمالية والتي أدت لانتشار البؤس للناس العاديين مع بقاء أنظمة هذه الدول التي أصبحت أشد قمعا وتطرفا. إن تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا لها جوانب عديدة جيوسياسية وسياسية واقتصادية، وأمنية وما لاحظناه في هذه الأزمة هو تحوط بلدان الخليج العربي ومصر وغيرها من الدول في رهاناتها بين الولايات المتحدة الأمريكية مع أوروبا ضد روسيا وهي تسعى لزيادة مكاسبها وخاصة في مجال التعاون الأمني ولاسيما أن دول الخليج ومصر وغيرها كانت مؤخرا قد بدأت تعمد لتنويع صناعاتها الدفاعية بتعزيز التعاون مع روسيا. وأزمة أوكرانيا الآن أعادت أوراق الضغط جميعها إلى الطاولة ولاسيما أن التداعيات ستلقي بظلالها على إيران وإسرائيل وتركيا وسورية وليبيا أيضا مع التواجد الروسي الكبير فاحتمال عزلة روسيا قد يؤدي بدورها إلى تعميق الانقسامات السياسية في ليبيا وفي سوريا قد تدفع الضغوط الروسية على ادلب معقل الثوار لحدوث نزوح جديد وبالمقابل يخشى الأكراد السوريين أن تحدث مقايضة أمريكية تركية وكذلك تخشى إسرائيل من تنامي التعاون الإيراني وإمكانية فرض قيود على قصفها للمواقع والأهداف الإيرانية في سورية. وأما على صعيد الأمن الغذائي والمساعدات الإنسانية فبالرغم من تأثير الأزمة الواضح على ارتفاع أسعار القمح والحبوب فإن التركيز على مساعدة اللاجئين الأوكرانيين وإعادة الإعمار المحتملة بعد الحرب قد تعطل شرايين الإمدادات للبلدان التي تعاني وضعا اقتصاديا مدمرا وهشا في سوريا واليمن وفلسطين ولبنان غيرها من الدول الإفريقية. بالمقابل فإن سعي الأوروبيين إلى تأمين مصادر بديلة للطاقة الروسية سيسهم في رفع التعاون الاقتصادي مع إسرائيل/ مصر/ ودول الخليج لتكون شريكة أساسية للطاقة مع أوروبا مما يفتح أبوابا للتعاون الاقتصادي أكبر مع دول المنطقة. إن انحياز إدارة بايدن إلى إعادة بث الحياة في الاتفاق النووي الإيراني بعد أن ألغاه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في محاولة لاستثمار صداقة مع عدو لدود جعلها تبتعد أكثر عن حلفائها الأمنيين والاقتصاديين في منطقة الخليج العربي وإعلان زيارة الرئيس بايدن المرتقبة والتي طال انتظارها إلى الشرق الأوسط تأتي في وقت مهم وخاصة بعد انخفاض شعبية الرئيس الأمريكي داخل أمريكي وتحديات التضخم الذي وصل إلى 8 % وأسعار الوقود المرتفعة واتجاه الفيدرالي الأمريكي إلى رفع نسبة الفائدة المتكرر. وهذه الزيارة هي فرصة ومحاولة جادة لمعالجة خيبة دول الخليج العربي في السياسة الأمريكية فيما يتعلق بالتهديد الإيراني مع وكلائها الإقليميين في لبنان وسوريا واليمن وكذلك معالجة للحرب اليمنية. علق مؤخرًا البروفيسور روبرت ليبير (بروفيسور في جامعة جورج تاون) قائلا: «لم يستغرق الأمر وقتا طويلا في إدارة الرئيس بايدن حتى تظهر فجوة بين التوقع والممارسة» ويمكن تلمس هذا الموضوع بوضوح في المفاوضات الإيرانية غير المباشرة في فيينا ولكن أيضا في قضايا أخرى، فقد سعى فريق بايدن بهدف التركيز بشكل أكبر على مواجهة الصين وروسيا إلى التقليل من التزامات السياسية الخارجية والدفاعية الأمريكية في الشرق الأوسط. وكان اليمن اختبارًا مبكرًا فقد حذف الحوثيون المدعومون من إيران من قائمة الإرهاب وبالمقابل لم تظهر طهران أي تعاون وعلى العكس تماما تم تكثيف شحنات الأسلحة للحوثيين وقام الحوثيون بالهجمات على أهداف عسكرية ونفطية ومدنية في السعودية. كانت إدارة أوباما السابقة (بسياساتها الخارجية والتي تلقي ظلالا على إدارة فريق بايدن وخاصة أن قسما كبيرا من المسؤولين في الخارجية الأمريكية كانوا قد خدموا في إدارة أوباما السابقة) تعتقد أن مزيجا من الحوافز والاتفاقيات قد تعزز دور المعتدلين في إيران وحملهم على الضغط لتغيير النظام وسياساته التطرفية وكذلك حمل إيران على أن تصبح جارة جيدة ولكن الواضح جدا أنهم أغفلوا حقيقة السلوك المتطرف لإيران والدعم المتفشي للإرهاب في المنطقة والقمع الداخلي لمدة تزيد على الأربعين عاما ويؤكد ما قاله وزير الخارجية الإيراني السابق ظريف أن الحرس الثوري هو من يقرر السياسة الخارجية وليس وزارة الخارجية. استنادا إلى مفهوم «النرجسية الإستراتيجية» لمؤلفها هانز مورجننثا وطرح إتش أر ماكماستر الفكرة القائلة: إن الأمريكان يقرؤون العالم من وجهة النظر الأمريكية فقط وأن مسار الأحداث السياسية المستقبلية تعتمد بشكل أساسي على قرارات الولايات المتحدة وخططها أو على قبول الآخرين لطريقة تفكيرنا» ولكن الواقع أثبت أن الصين وروسيا وغيرها لم تعد تقبل إسقاط الافتراضات والآراء عليها وهي تتصرف مدفوعة بما يمليه عليها السياق الأيديولوجي والتاريخي لتجاربها ومصالح أنظمتها لذلك لا تستجيب بالطريقة المرغوبة للإدارة الأمريكية. وهكذا فإن الإدراك العملي الحسي للإدارة الأمريكية يجب أن يتغير بما يتلاءم مع معطيات المرحلة الراهنة وهذا يذكرنا (حسب تعليق البروفيسور روبرت ليبير) برد هنري كيسنجر الساخر خلال إدارة نيكسون السابقة عندما سئل فيما إذا كانت إدارته ستكرر أخطاء سابقتها قائلا: «لن نكرر أخطاءهم بل سنرتكب أخطاءنا بأنفسنا». هناك فرصة كبيرة لإصلاح الدور الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط وتأكيد أواصر التعاون السياسي والأمني والاقتصادي مع دول الخليج العربي حيث يعي قادة دول الخليج العربي أهمية بدء الإصلاحات الاقتصادية للابتعاد باقتصاديات دولهم عن الاقتصاد الريعي وبدء التحول الاقتصادي والذي يعتمد على تنوع القطاعات الاقتصادية ومساهماتها في الناتج القومي وهذه فرصة تاريخية للإدارة الأمريكية للمساهمة الفعالة في رفع مستوى التعاون على جميع الأصعدة وأن تأخذ بعين الاعتبار تأثير البومرنغ في السياسة وما تطلقه من خير لا بد أن يعود عليك بخير. - لعبة البومرنغ، تستخدم فيها أداة مصممة بطريقة ترجع إلى الشخص الذي يرميها.
مشاركة :