للخبز أهمية بالغة، إذ هو ليس غذاء فحسب، بل ثقافة كاملة أيضا، بما يحمله من رمزية ومن تاريخ طويل، كان فيها على رأس الثورات والتمرد الشعبي، وكان كذلك على رأس اهتمام الحكام والشعوب بمنظوماتها الدينية والاجتماعية، لذا فإن مقاربة موضوع الخبز في دولة لها تاريخ عريق مثل مصر، تعد أمرا مثيرا. يجل المصريون الخبز، فإذا رأى أحدهم قطعة من الخبز نحاها بجانب الحائط، وربما قبلها قبل ذلك، ولا يستحلون أن تطأه أقدامهم، ويتجنبون إلقاءه في الفضلات، ويسمونه “العيش” مما يدل على مكانته الكبيرة لديهم، من هنا تأتي أهمية هذه الدراسة للأكاديمي والباحث جمال كمال محمود “حكاية الخبز في مصر الحديثة” التي تتناول التعريف بالخبز ومسمياته منذ فجر التاريخ. ويبين محمود كيف كان للخبز العديد من الأسماء في مصر القديمة وأهميته واحترامه ومكانته، وصناعته بدءا من زراعة الحبوب وحصدها ودرسها وتذريتها وتخزينها في المخازن والشون، مرورا بطحنها بعد تنقيتها ثم نخل الدقيق والرقابة وعجنه، كما تطرق إلى الخبز زمن الرخاء وأثناء الأزمات الاقتصادية والأوبئة. الخبز نظام كامل "حكاية الخبز في مصر الحديثة" رواية تتناول التعريف بالخبز ومسمياته منذ فجر التاريخ يؤكد محمود أن الخبز كان ومازال مادة غذائية رئيسية لدى معظم الشعوب وخاصة الشعب المصري، حيث يعد الشغل الشاغل للمصريين منذ فجر التاريخ، وعدت زراعة القمح والحبوب عامة دليلا على مدى تحضر المجتمعات المستقرة، وتدل بعض الإحصاءات التي أجريت حديثا على أن الخبز يمثل أكثر من نصف الطعام المأكول في نصف دول العالم. وتوضح بعض الأمثلة الشعبية في مصر أهمية الخبز، منها “إن صح العيش يبقى الباقي بشرقة” أي ترفا، و”ضعيف ويأكل ميت رغيف”، و”ما التقاش العيش ينقشه، جاب له عبد يلطشه”. يشير الباحث إلى أن أسماء كثيرة للخبز عرفت منذ بداية الأسرات الحاكمة وحتى نهاية الدولة الحديثة، وقد دونت هذه الأسماء على الآثار المختلفة، مثل الأختام الأسطوانية التي ترجع إلى عصر الأسرة الأولى، ولوحات الأسرة الثانية، وقوائم القرابين في المعابد والمقابر، كما ذكرت نصوص الأهرام ومتون التوابيت الكثير منها، وقد دون بعضها على البردي والأوستراكا. ويذكر أن بعض الأسماء التي ظهرت في عصر بداية الأسرات استمرت حتى الدولة الحديثة، والبعض الآخر توقفت كتابته لفترة ثم ذكرته النصوص مرة أخرى. وبعضها الثالث ظهر في عصر بداية الأسرات واختفى بعد ذلك نهائيا، ولكن أغلب أسماء الخبز التي عرفت في عصر بداية الأسرات واستمرت حتى الدولة الحديثة كان ضمن أسماء الخبز التي ذكرت في قوائم القرابين، وأغلب الظن أنها نفسها أي أسماء الخبز نفسه الذي كان مستخدما في الطعام. ويلفت محمود إلى انتشار بعض أشكال الخبز البيضاوية في عصر الدولة القديمة، وتعدد أحجامها وزخارفها، فبعضها كان مستدير الحافة والبعض الآخر كانت حوافه مستقيمة مما يجعله يبدو مستطيل الشكل نوعا ما، وكان بعضها مخروطيا ونصف دائري وسداسي وأشكال مثلثة، أما في الدولة الوسطى فكان أغلبها مخروطيا ومستديرا كما هو الحال في عصر الدولة القديمة، مع الفارق في وجود التحويرات في أشكال الحواف وأطراف الأرغفة المخروطية وكذلك الأحجام، ولم تختلف الأشكال في الدولة الحديثة، فكان منها المستدير والمخروطي والبيضاوي والمثلث والنصف دائري وأشكال متنوعة من فطائر ومعجنات. وتضاف إلى أهمية الخبز الغذائية أهمية طبية، فقد وصف جالينوس، أحد الأطباء القدامى، الخبز الخميري النقي لرجل كان إذا خلا بطنه صرع. كما أشار ابن البيطار إلى ضمادات كان الأطباء قديما يصنعونها من خبز الحنطة لتسكين الأورام، وكان الأطباء العرب والمسلمون يوصون مرضاهم بتناول خبز القمح. وأفاد ابن سينا بأن الخبز المصنوع من الحنطة يسمن بسرعة، وأشار إلى استخدام الخبز في العلاج. ويرى أن عملية الرقابة على الخبز احتلت مكانة مهمة لما لها من دور في توفير الخبز وجودته في ذات الوقت، وهو ما يعرف بالحسبة. وكان المحتسب مسؤولا عن الإشراف على منتجي وبائعي الأطعمة والسلع الأساسية، والتي كان على رأسها الخبز الذي كانت له أهمية خاصة ولا يزال يحتل نفس الأهمية، وكانت الرقابة على الخبز في الأسواق على رأس أولويات جهاز الحسبة في ذلك العصر، والذي اهتم اهتماما كبيرا بكشف العديد من نماذج التلاعب في الخبز ووزنه وجودته. الخبز كان ومازال مادة غذائية رئيسية لدى معظم الشعوب لكنه يخفي معطيات ثقافية وفكرية ودينية وغيرها ولعب قاضي القضاة دورا مهما في ذلك، فنجده يجمع نوابه بمصر وبولاق والقاهرة ويشدد عليهم بالتنبيه على الخبازين بضرورة توفير الخبز الجيد كامل الوزن، وإذا احتج أحد الخبازين بعدم وصول الدقيق من الطحان يحضر الطحان ويلزمه بحمل الدقيق إلى الخبازين على عادته، لكي لا ينقطع الخبز طوال الوقت، فإذا لم يصل الدقيق في وقته المعلوم فالنتيجة تكون عليهم، وإذا لم يوف الخباز ما هو مرتب عليه “تسمر أذنه في محل بيعه”، وإذا قصر الطحان في عمله يرسل إلى القاضي، وإذا حدث خلل في ذلك العمل تكون تبعته على نواب القاضي وسيخضعون للعقاب. ويكشف محمود أن صوامع مصر القديمة تعد مخزنا مهما للقمح، وقد عهد إلى أربعة أغوات جمع وتخزين القمح في كل من المنيا وبني سويف وجرجا ومنفلوط، وتشدد الحكومة على توفير القمح الذي يشحن على السفن ويتم تفريغه في حواصل القمح الخاصة في بولاق، حتى وإن كان صاحب القمح غير موجود “توسعة على الفقراء”، حيث يكتب اسم صاحب القمح ويعين القاضي شخصا من جانبه صحبة الجاويش المعين مع القمح ليكون ذلك على يديه وحفظا لثمنه. يؤكد الباحث أن توفير الخبز كان من أهم أوليات الحكام، فنجد أحدهم يأمر بزيادة وزن الخبز وإخراج الغلال لتباع للناس، ويؤكد الاهتمام بتوفير رغيف الخبز الذي كان أهم أوليات الناس كما هو كذلك بالنسبة إلى الحكام. وكانت مخازن الحبوب ـ الشون ـ تحاط بأسوار عالية، لتأمينها والحيلولة دون سرقتها، ثم توزيعها على التجار، وتشير الدلائل التاريخية إلى تصدير مصر كولاية القمح إلى ولايات عثمانية أخرى وحتى إلى دول أوروبا في فترات الرخاء، وإن درت فرمانات سلطانية تمنع ذلك في بعض الفترات، خاصة في أوقات الأزمات الاقتصادية والناجمة في الأساس عن نقص فيضان النيل. خطر الأزمات الأشكال تختلف لكنها أساسية في حياة الإنسان الأشكال تختلف لكنها أساسية في حياة الإنسان يلاحظ الباحث أن مصر شهدت الكثير من فترات الرخا والتي توافر فيها الخبز بشكل كبير، وإن كانت لا تقارن في عددها بسنوات الأزمات الاقتصادية أو الصراعات العسكرية والسياسية، ففي سنوات الرخاء كان القمح يصدر للجزيرة العربية والشامح والآستانة ـ حاضرة الدولة العثمانية ـ حيث كانت مصر من أهم مخازن الغلال لها، ليس هذه فحسب بل كان القمح يصدر كذلك إلى أوروبا، وذلك بعد توريد غلال الحرمين الشريفين، وكان القمح المصري في بعض المناطق يتميز بلونه الأبيض وكبر حجمه ويترتب على ذلك بيعه بأسعار معتدلة. ويوضح أن أزمة 1694 ـ 1696 تعد من أهم الأزمات الاقتصادية التي تعرضت لها مصر، إلى درجة أن البعض يعتبرها أشد الأزمات التي ضربت مصر منذ عصر الفاطميين، حتى صارت معلما بارزا تقارن به الأزمات التي تعرضت لها مصر في القرن الثامن عشر، حيث لم يفض النيل لمدة ثلاث سنوات متتالية، إذ سجل 16 ذراعا في عام 1693 وكذلك نفس المنسوب في العالم التالي والذي يليه والذي انحسرت فيه المياه سريعا، وهو ما أدى إلى تفاقم الكارثة، حيث شرقت أرض مصر باستثناء بعض أراضي الغربية والمنوفية التي أمكن ريها بالتحايل الشديد على الري باستخدام الشواديف وغيرها. ويضيف محمود أن الجوعى كانوا يسرقون الخبز من الأسواق، بل ومن على رؤوس الخبازين، بحيث لجأوا إلى صناعة أقفاص خشبية وأن يزودوا عن حاملي الخبز برجال مسلحين، وقد ذهب البعض من المؤرخين إلى أن الجوعى أكلوا قشر البطيخ من الطرقات ورؤوس الماشية والخيول، بل وصل الأمر إلى أكل الحيوانات ابتداء من الحمير والبغال إلى القطط والكلاب ما كان حيا منها أو ميتا، بل لم يمتعضوا من تناول الجيفة والرمم. وقد زادت حالات الموت حتى خرجت مواكب الجنازات متتابعة تلاحقها خدمات القائمين على تغسيل الجثث الأخرى، والتي كانت تتساقط تباعا في الطرقات والأزقة. وما كانت تخلو المساجد من صلاة على الجنازات الجماعية طيلة هذه الأزمة، ومما كان يزيد من احتدامها أن يتساقط المشيعون للجنازات أثناء تشييعها، فتتضاعف أعداد الجثث بالطرقات والشوارع ممن لا يعرف لهم أهل ولا مسكن. ويعدد الباحث الأزمات التي ضربت مصر مؤكدا أن نهب الخبز كان ظاهرة في أثناء كل الأزمات، حيث تزخر وثائق المحاكم الشرعية بالمئات من الوثائق التي تتعلق بهذا الموضوع، حيث ادعى أحد الخبازين على شخصين بأنهما تعديا عليه بالضرب ونهبا خبزه، وكان ثلاثة أقفاص بها خمسمئة رغيف. ويطرح الرحالة التركي أوليا جلبي سببا مهما للغلاء وهو الاحتكار، فيشير إلى ذلك أثناء رحلته إلى مصر والتي سجلها في كتابه الماتع “سياحتنامة” حيث زار مصر سنة 1060هـ 1650م في عهد عبدالرحمن باشا، موضحا أن الاحتكار كان بسبب سوء الإدارة والتراخي في ضبط شؤون الحكومة، مما أفضى إلى ظهور قحط شديد وغلاء فاحش في أرجاء البلاد حتى أن الفقراء اضطروا إلى أكل الميتة والجيف. ShareWhatsAppTwitterFacebook
مشاركة :