إذا كان “الخروج” بأي ثمن من الاتحاد الأوروبي، ومعاداة الهجرة، والإسلاموفوبيا، هي من بين أبرز ما تركه بوريس جونسون من إرث لحزب المحافظين، وإذا كان الخداع والنفاق والانتهازية هي من بين أبرز الوسائل التي قام عليها هذا الإرث، فإن جونسون آخر هو الذي سوف يخلف جونسون في رئاسة الوزراء. باستثناء جيرمي هانت وزير الخارجية ثم الصحة السابق الذي يمثل منهجا مختلفا، فإن كل المرشحين البارزين لخلافة جونسون هم وجه آخر له. أو أنهم “جونسونيون” ليس بأقل من هذا الذي نددوا به واستقالوا من حكومته. بعض المرشحين لا أهمية حقيقية له. مثل كيمي بادنوش، النائبة السوداء التي دخلت البرلمان لأول مرة قبل خمس سنوات. وبرغم أنها تولت منصب وزيرة دولة للمساواة، فهي تعرف سلفا أنها تدخل المنافسة على زعامة حزب المحافظين من باب صنع المظاهر بالمساواة، وليس لأنها تملك أي فرصة للفوز. وهو ما ينطبق على ناظم الزهاوي، وزير المالية الجديد، الذي كان أول شيء فعله لدى تسلمه المنصب هو أنه دعا جونسون إلى الاستقالة، في تأكيد على أن فيه شيئا من طباع جونسون في الغدر. هذا المهاجر، العراقي الأصل، والذي لعب دوره الأهم في إدارة استيراد وتوزيع لقاحات وباء كورونا وتنظيم حملة التلقيح، لا يملك أدنى فرصة لكي يحتل مقعد رجل “أبيض، أشقر” مثل جونسون. رئاسة الحكومة البريطانية تظل في النهاية منصبا لا يرقى إليه أناس من غير ذوي الدم الأزرق. وهو يعرف ذلك، إلا أنه يمارس الحيلة على نفسه، كما يبيع الخداع للناس، على اعتبار أن بريطانيا التي تطرد المهاجرين إلى رواندا، ليست بذلك السوء. حتى أنه اعتبر توليه منصب وزير المالية، ولو من دون عمل حقيقي بعد استقالة جونسون، نموذجا خلاقا للانفتاح والتعددية وروح الاستيعاب والإنسانية البريطانية. وهو فرح بمنصبه إلى درجة أنه يكفيه البقاء فيه إلى حين تشكيل حكومة جديدة، ليكون ذلك دليلا على الانفتاح والتعددية والروح الإنسانية… إلخ. بعض المرشحين لا أهمية حقيقية له. مثل كيمي بادنوش، النائبة السوداء التي دخلت البرلمان لأول مرة قبل خمس سنوات ساجد جاويد، الباكستاني الأصل، يمكنه أن يحلم بمنصب عمران خان الذي أقيل مؤخرا من منصبه في باكستان، قبل أن يحلم بمنصب رئيس الوزراء في بريطانيا، على الأقل لأنه مسلم. وكانت استقالته من حكومة جونسون لا أكثر من انتقام شخصي، لأن جونسون أقاله من وزارة المالية ليعين نائبه “المخلص” (سابقا) ريشي سوناك الهندي الأصول بدلا منه. ولقد انتظر التوقيت المناسب بالفعل لكي يرد له الطعنة. الأول طعنها بالظهر، وهو طعنها بالصدر مباشرة. سوناك نفسه كتب في رسالة استقالته أنه يعلم أن منصبه كوزير للمالية هو آخر منصب حكومي له، وإنه مضطر للمغادرة لأنه لم يعد بوسعه أن يعمل تحت سلطة رئيس وزراء تلاحقه الاتهامات بالخداع. ولكن لم تمض ساعات على إعلان جونسون الاستقالة، حتى أعلن عن ترشيح نفسه للمنصب، ليقدم تأكيدا على أنه ليس أقل قدرة على الخداع من جونسون. سوناك متهم أيضا بأنه بينما لم يخفف من أعباء ارتفاع الأسعار على الأسر البريطانية محدودة الدخل، فإنه مليونير متزوج من مليونيرة ابنة ملياردير هندي، وزوجته لا تدفع ضرائب للحكومة التي هو وزير ماليتها. هذه أنماط مختلفة من “الجونسونية” التي تتنافس على منصب جونسون. وليس أقل منها نفاقية بيني موردونت وزيرة الدفاع السابقة التي أقالها جونسون لأنها دعمت منافسه هانت، على زعامة الحزب في العام 2019. فبرغم أن هانت مؤيد للبقاء في الاتحاد الأوروبي، فإنها “خروجية” (بريكسيتير) ليست أقل شراسة من جونسون، ومصابة بداء الإسلاموفوبيا ومعادية للهجرة ولم تتردد في إطلاق أكاذيب مماثلة بشأن “الخطر التركي” الذي يهدد بريطانيا لو أنها بقيت في الاتحاد الأوروبي. على اعتبار أن قبول عضوية تركيا في الاتحاد مسألة منتهية، رغم أنها لم تكن كذلك في ذلك الوقت، وليست كذلك الآن. وعلى اعتبار أن المسلمين سوف يغزون أوروبا وتاليا بريطانيا. موردونت دعمت حملة جونسون للخروج. ولما نشب النزاع على زعامة الحزب بعد استقالة تيريزا ماي، دعمت ترشيح هانت. وأقالها جونسون من منصبها فور توليه السلطة، وبقيت في الظل تمارس أحقادها عليه. وعندما وقع جونسون في حفرة الحفلات في مقر الحكومة خلال فترة الإغلاق، وصفت موردونت هذه الحفلات بأنها “مخزية”. ليز تراس وزيرة الخارجية الحالية، تحظى بحظوظ وافرة لتولي المنصب. وهي تطمح به منذ أن التقطت لنفسها صورة في دبابة على غرار الصورة التي التقطتها مارغريت تاتشر في العام 1986، لتقول لنفسها على الأقل، إنها يمكن أن تكون تاتشر رقم 2. إلا أنها لا تملك مشروعا سياسيا واضحا كمشروع تاتشر، كما لا تتمتع بالحنكة التي كانت تتمتع بها تاتشر. وبمقدار ما يتعلق الأمر بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فقد دعمت البقاء في البداية، وعندما اتضح أن المركب قد غرق، أصبحت “خروجية” هي الأخرى. Thumbnail أحد أبرز الأمثلة على قلة خبرتها، حتى في شؤون الوزارة التي تتولاها هي أنها قادت مفاوضات فاشلة مع نظيرها الروسي سيرجي لافروف قبل عشرة أيام من بداية الغزو لأوكرانيا. وكانت تقصد أن تحض روسيا على عدم القيام بالغزو. فخاضت حوارا وصفه لافروف بأنه حوار “صم بكم”، لأنها ذهبت ليس لكي تتفاوض، وإنما لكي تستعرض “مواقف قوية”. وعندما سألها لافروف “عما إذا كانت بريطانيا تعترف بسيادة روسيا على روستوف وفورونيغ”، فقد ردت تراس على الفور بالقول “إن المملكة المتحدة لن تعترف مطلقا بسيادة روسيا على المنطقتين”. السفيرة البريطانية لدى موسكو ديبورا برونيرت، داست على قدمها وشاورتها بالقول إن هاتين المنطقتين روسيتان وتقعان في جنوب غرب البلاد. حادثة الجهل هذه شجعت المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف على القول إن “هذا هو الواقع الذي علينا أن ندافع عن أنفسنا فيه”. وظلت تراس تدافع عن جونسون برغم كل ما أتهم به، وقالت إنها “تؤيده بنسبة مئة بالمئة” ودعت زملاءها على فعل الشيء نفسه. وعندما استقال قالت إنه “اتخذ القرار الصائب”. وهناك أسماء أخرى تدخل المنافسة، من قبيل سويلا برافرمان التي على الرغم من احتلالها منصب المدعية العامة ولكنها أعربت عن دعمها لانتهاك القانون الدولي بشأن قواعد التجارة في أيرلندا الشمالية في مرحلة ما بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي. القاعدة في لجنة 1922 التي تشرف على انتخابات زعامة حزب المحافظين تقتضي بأن تجري الانتخابات على عدة مراحل غرانت شابس، الذي دخل البرلمان لأول مرة في العام 2005، وشغل منصب وزير الدولة للنقل، “جونسوني” إلى درجة أن جونسون كان يرسله لمخاطبة الإعلام نيابة عنه. وقبل استفتاء العام 2016 كان يدافع عن البقاء في الاتحاد الأوروبي، إلا أنه نقل السلاح من كتف إلى آخر بعد أن ظهرت النتائج. وهو شيء فعله معظم نواب الحزب. ولا شيء غريبا في هذه الطباع بين المحافظين البريطانيين. الخداع والطعن في الظهر والانتهازية جزء من “عدّة الشغل”. في مواجهة حزمة كاملة من “الجونسونيين”، وحده هانت، الذي يمكنه أن يشكل تيارا مختلفا. فهو دعم البقاء في الاتحاد الأوروبي، ويتمتع بشخصية أقل ميلا لإثارة الجدل، ولا يبدو متقلبا أو انتهازيا أو رجل تصفية حسابات شخصية كمنافسيه الآخرين. إلا أنه قد لا يتمكن هذه المرة من الوصول إلى المراحل الأخيرة للتصفيات. رئيس لجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان توم توجهانت، قريب منه، ولكنه يبدو باهتا، على الرغم من أنه أعلن عن رغبته بأن يشق الحزب تحت قيادته طريقا آخر غير الطريق التي سارت بها الحكومات المحافظة السابقة، من ديفيد كاميرون إلى بوريس جونسون. وتقتضي القاعدة في لجنة 1922 التي تشرف على انتخابات الزعامة، بأن تجري الانتخابات على عدة مراحل، بحيث يخرج من القائمة الأقل فالأقل تأييدا بين نواب الحزب الـ357، وذلك إلى حين الوصول إلى بقاء مرشحين اثنين، هما اللذان يتم عرضهما على الاستفتاء العام. في انتخابات العام 2019 فاز جونسون على هانت، وكان فوزه بالأحرى، تعبيرا عن فوز حملة “الخروج” بين أوساط العضوية العامة للحزب. هذه المرة، يكاد من العسير تصور أن هانت سيحظى بدعم عدد يناهز نصف مجموع النواب لكي يكسب بطاقة الترشيح للتصويت النهائي. كل ما سوف يحصل هو أن “جونسوني” سوف ينافس “جونسوني” آخر ليحتل منصب جونسون.
مشاركة :