علي شندب يكتب: العراقيون وثورة العشرين وخان ضاري

  • 7/12/2022
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

وكأنّ قدر العراق الذي كان رأس حربة العرب ودرعهم ورمحهم الذي لا يلين أو ينكسر، أن يبقى في عين العاصفة هدفاً لمحاولات تقويضه وإسقاطه من معادلات القوّة والهيبة التي لطالما شكّلت مصدر توازن واستقرار البلاد العربية. لكنّ المؤامرات والحملات الاستعمارية المتوالية فعلت فعلها حديثاً في العراق منذ احتلاله وغزوه عام 2003، وجعلته بمثابة حديقة خلفية أو أمامية للولايات المتحدة الأمريكية التي قضت مصلحتها في وضعه بين الأنياب الإيرانية. وعلى مدى 22 عاماً من عمر الاحتلال الأمريكي يعيش العراق والكثير من العراقيين واقعاً بائساً قتلاً وتهجيراً وتشريداً وفقراً وتسولاً وانعداماً للخدمات والكهرباء، وفساداً نخر عظام مؤسّسات الدولة وقطاعاتها الاقتصادية والإنتاجية والتعليمية والصحية رغم الموازنات الضخمة التي تسطو عليها الطبقة السياسية وميليشيات إيران المتغوّلة في مفاصل الدولة المهترئة. وإذا كان الاحتلال الأمريكي عام 2003 محل مواجهة شرسة وضارية من العراقيين الذي أطلقوا مقاومتهم ضد هذا الاحتلال، فإن تغوّل الميليشيات على الدولة قد أدى وساهم في إطلاق “ثورة تشرين” التي أزالت ورقة التوت عن عورة وسوءات نظام العملية السياسية التخادمية بين إيران والولايات المتحدة، ووضعت الطرفين في مأزق هزّ نفوذهما معاً، ما حوّل العراق من نقطة تخادمية بينهما، إلى مفصل تاريخي للتحرّر من كليهما معاً. وعلى مدى عقود متوالية من المواجهة مع الاستعمار والقوى الدولية والإقليمية المتربّصة بالعراق، بقيت “ثورة العشرين” التي اندلعت لمواجهة الاستعمار الإنجليزي تشكل حجر الرحى والمرجل الذي لطالما أجّج أوار المواجهة مع القوى الاستعمارية زوداً عن الأرض والعرض. واذا كان احتلال الولايات المتحدة وبريطانيا للعراق عام 2003 قد اتكأ على جسر من الأتباع من مختلف الأطياف الدينية والسياسية، فأحدث نوعاً من الانقسام بفعل لعب الاحتلال على تغذية الدسائس والنعرات القومية والمذهبية، فإنّ “ثورة العشرين” وبفضل وعي وفراسة رموزها قد فوّتت الفرصة على مساعي الإنجليز غير الحميدة في تمزيق النسيج الاجتماعي والوطني العراقي، بل إن جهود الإنجليز انعكست وبالاً عليهم وأسّست لوحدة وطنية عراقية عزّ نظيرها في بلد متنوع طائفياً وقومياً. وثائق تاريخ العراق تقول أنّ الإنجليز تمكّنوا من كسر ثورة النجف الأشرف التي اندلعت عام 1918 بعدما سحقوها بعنف وقسوة بالغة، وعملوا فيها قتلاً وتنكيلاً، وأسالوا فيها الكثير من الدماء العراقية. لكن أولى الشرارات التي أدت لاندلاع ثورة العشرين كانت في هبّة عشائر السماوة والمثنى بمداهمة مركز الاعتقال في “الرميثة” يوم 30 يونيو/حزيران 1920 وتحرير الشيخ شعلان أبو الجون شيخ عشيرة الظوالم من سجنه، وهي الشرارة التي ساهمت في اندلاع الثورة في غالبية مدن العراق بدون “فتوى دينية”، ما يؤشّر الى أن حميّة العراقيين للدفاع عن بلدهم لم ترتبط تاريخياً بأيّ فتوى. أمّا النقطة المفصلية والحاسمة في تأجيج أوار الثورة وامتداداتها الأفقية والعمودية في العراق، فكانت في الملحمة البطولية التي خاضها الشيخ ضاري المحمود مع حاكم الحامية الإنكليزية ذائع الصيت “الجنرال ليشمن” الذي تركزت جهوده على محاولة إخضاع وترويض الشيخ ضاري المحمود الذي تمنّع مراراً عن الاجتماع مع “ليشمن” ليقينه بأنه سيطلب تعاونه ضد العراق والعراقيين، لكن ضغوط ونصائح بعض شيوخ العشائر دفعت الشيخ  ضاري للاجتماع بليشمن في مركز “النقطة”، حيث كال ليشمن للشيخ ضاري التهديد والوعيد والكثير من الإهانات القاسية التي تأباها النفس العراقية العزيزة وحاول اعتقاله، ما جعل الحميّة تفور في دماء الشيخ ضاري ويخرج من الاجتماع ويعود اليه مصحوباً بولديه خميس وسليمان اللذين صوّبا بنادقهما الى رأس ليشمن وأطلقا النار عليه، ثم أجهز الشيخ ضاري عليه بسيفه، وعند محاولة مرافق ليشمن التحرّك قتلوه أيضاً. قتل الشيخ ضاري لجنرال بريطانيا ليشمن، شكّل الأيقونة الإستراتيجية لثورة العشرين التي لم تنل منها أعاصير الزمن وتحولاته، بل إنها شكّلت الإطار الوطني والوجداني للعراقيين على إمتداد مئة وعامين. وقد تحوّلت هذه الملحمة إلى درس بليغ في الإيثار والوطنية والمقاومة ضد الإحتلال والإستعمار الأجنبي، وقد رفدها العراقيون وسقوها بأهداب العيون وأفئدة القلوب، وتحوّلت الى عمل فني وطني وسينمائي وإبداعي خلّدها الشعراء والرواة والكتّاب، وأهازيج العراقيات المادحة لبطولات الشيخ ضاري التي صدحت بها حناجر العرب وأحرار العالم وراءهم.. “هزّ لندن ضاري وبكّاها”. عاماً بعد عام يستذكر العراقيون بكثير من المجد والفخار، ثورة العشرين وقادتها ورموزها الكبار، ويحفظون وصية الشيخ ضاري لهم في مواجهة الاحتلال البريطاني “.. أوصيكم أن تكونوا رجالاً صابرين على البلوى وعلى ما يصيبكم واتفقوا ولا تفرقوا”. وعاماً بعد عام تقام الندوات العلمية بدراساتها الرصينة الهادفة للحفاظ على تراث ثورة العشرين واعتماده كذخيرة حيّة في الذود عن العراق ووحدته، وهذا أمر قلّما أجمعت عليه أطياف العراق خصوصاً بعد احتلال 2003، من المنخرطين في العملية السياسية والرافضين لها على السواء. فثورة العشرين لم تزل تشكل وجداناً جمعياً للعراقيين، رغم شذوذ قيس الخزعلي وعصائبه. أثناء الاحتلال الأمريكي للعراق، التقيت الشيخ حارث سليمان الضاري (حفيد الشيخ ضاري) للمرة الأولى في دارته بمنطقة خان ضاري في قضاء أبوغريب، وأجريت معه حواراً متلفزاً، ودردشة خلف الكاميرا سألني فيها الشيخ حارث عن لبنان وطرابلس، وعن الضنيّة مسقط رأسي.. وسألته فيها عن إعادة الإعتبار لخان جده الشيخ ضاري، وأجاب.. “يسوّوه الشباب إن شاء الله”. إحياء ذكرى ثورة العشرين تميّز هذا العام أيضاً، بمبادرة “مؤسّسة الضاري للتنمية والتطوير” ورئيسها جمال الضاري في القيام بترميم “خان ضاري”. وقد بات اسم “خان ضاري” إسماً لبلدة الشيخ ضاري في قضاء أبو غريب الممتد بين بغداد والفلوجة. رمزية ترميم “خان ضاري” وإعادة الإعتبار التراثي له، تشكل من وجهة نظر محايدة “عملية مقاومة” من داخل الواقع السياسي العراقي، لإعادة ضبط البوصلة باتجاه استنباط الدروس والعبر المستفادة من ثورة العشرين، وبهذا المعنى فالأمر يتجاوز البناء العمراني الى البنيان الثقافي والاجتماعي والفكري والسياسي والنضالي، والعمل على تحويل “خان ضاري” إلى متحف لثورة العشرين مرفوقاً بأكاديمية أو مركز للدراسات الاستراتيجية يتولى إعادة ضخ وتزخير منظومة القيم التي تنكّبها الشيخ ضاري المحمود الزوبعي والمتأصّلة في الشخصية والنفسية العراقية بشكل عام. إنها القيم القائمة على الزود عن الأرض والعرض والكرامة والنخوة والكرم وإغاثة البعيد قبل القريب. وقد عبّر عنها مؤخراً شباب “ثورة تشرين” العراقية. وبعيد الاحتلال الأمريكي رفع لواءها حفيد ضاري المحمود، الشيخ حارث الضاري كزعيم لهيئة العلماء المسلمين من جهة، وكحامل للواء المقاومة العراقية والمطاولة ضد الإحتلال الأميركي والإيراني من جهة أخرى.

مشاركة :