منذ البداية وحتى قبل نشوب حرب أوكرانيا كان في الإمكان حسبما يبدو تجنب هذه الكارثة لو أن الدول الغربية أبدت تفهمًا أكثر للمخاوف الأمنية لروسيا نتيجة تمدد حلف الناتو حول حدودها الجغرافية، حيث خلال فترة ليست بالقصيرة وسابقة للحرب ظلت روسيا تحاول للحصول على تطمينات أهمها عدم توسع الناتو على حدودها وخاصة من خلال ضم مزيد من دول أوروبا الشرقية الى الحلف وأوكرانيا كانت المرشح الذي استفز روسيا بشكل لم تستطع أن تتحمله أو تقبل به. على كل حال وللأسف فإن الحرب أصبحت واقعًا ومن غير المجدي الآن التحسر كثيرًا على ضياع فرص تجنب هذه الحرب. إن سوء التقدير لا يقتصر فقط على عدم بذل جهد كافٍ لتجنب هذه الحرب بل يتمثل أيضًا حسبما يبدو في نوع وطبيعة الإجراءات التي تم اتخاذها من قبل الدول الغربية تجاه روسيا على ضوء نشوب هذه الحرب. للضغط على روسيا وإجبارها على وقف الحرب عملت الدول الغربية على مقاطعة استيراد النفط والغاز الروسي كما قاطعت تعاملات بعض البنوك الروسية من خلال عزلها عن نظام المدفوعات العالمي. على الصعيد العسكري واضح أن المعركة غير متكافئة، وإن روسيا ماضية في تحقيق أهدافها العسكرية دون اكتراث. إذًا ما جدوى إجراءات مقاطعة روسيا اقتصاديًا وهل هذه الإجراءات قادرة على ردع روسيا عن الاستمرار فى هذه الحرب أو إضعاف اقتصادها بشكل يجبرها فى النهاية عن مواصلة هذه المعركة؟ في الواقع وحتى الآن لا يبدو ذلك وحتى على الصعيد الاقتصادي، فإن كثيرًا من المعطيات تشير الى أن الاقتصاد الروسي لم يتضرر كثيرًا بل على العكس من ذلك، حيث إن روسيا قد استفادت الى حد ما من هذه الإجراءات. إن مقاطعة النفط الروسي أدت الى ارتفاع سعر البترول بشكل كبير، الأمر الذي عوض روسيا عن النقص في صادراتها النفطية نتيجة لمقاطعة الدول الغربية. في الواقع أن المقاطعة رفعت من أسعار البترول عالميًا، حيث أدى ذلك الى تضرر كثير من اقتصاديات العالم وبخاصة اقتصاديات الدول الغربية نفسها. على صعيد آخر، استفادت روسيا من المقاطعة في تعزيز قوة عملتها الروبل، حيث ارتفعت قيمة هذه العملة بشكل كبير وبعكس ما استهدفته مقاطعة الدول الغربية. ووفقًا لبعض التقديرات فإن العملة الروسية ارتفعت بحوالي 40% في مقابل الدولار منذ بداية هذا العام. كما قدَّر معهد التمويل الدولي أن الحساب الجاري لروسيا سوف يحقق فائضا هذا العام بمقدار 250 مليار دولار اي ما يعادل حوالي 15% من الناتج الإجمالي المحلي لروسيا العام الماضي، وهو ما يمثل أكثر من ضعف الفائض المقدر بمبلغ 120 مليار دولار حققته روسيا العام الماضي 2021. في المقابل فإن الدول الغربية قد تضررت كثيرًا من ارتفاع أسعار الطاقة، كما أن الدول الأوروبية لا تبدو جميعها متفقة حول هذا الوضع ويبدو أن هناك انقسام في الموقف تجاه هذه المقاطعة. كذلك فإن بعض زعماء أوروبا قد فقدوا الدعم الشعبي وأصبح بالتالي يصعب عليهم اتخاذ قرارات هامة على الصعيد الداخلي ولكن أيضًا على الصعيد الخارجي. فالرئيس الفرنسي ماكرون بعد أن فقد الأغلبية المطلقة في الانتخابات التشريعية الأخيرة لم يعد يستند على شرعية قوية تمكنه من اتخاذ قرارات مهمة. كذلك الحال مع رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الذي اضطر مؤخرًا الى الاستقالة على ضوء المشاكل العديدة التي واجهها وانتهت بإزاحته من رئاسة الحكومة. الرئيس الأمريكي بايدن ليس أفضل حالاً، حيث إنه - سياسيًا وصحيًا - في وضع لا يحسد عليه. لذلك فإن جبهة الدول الغربية لا تبدو قوية أو متماسكة لتحقيق انتصار سريع على روسيا في هذه المواجهة. من ناحية آخرى وعلى الصعيد الاقتصادي، فإن الدول الأوروبية بدأت تواجه نقص الإمدادات في استيراد حاجاتها من النفط والغاز، وبدأ البعض منها يتجه الى العودة لاستخدام الفحم لسد العجز في حاجاتها من موارد الطاقة بعد أن قررت روسيا تقليص صادراتها من الغاز للدول الأوروبية كرد فعلٍ لسياسة المقاطعة التي تتبعها الدول الغربية. حاليًا تواجه بعض الصناعات الألمانية أزمة كبيرة في الحصول على حاجاتها من الغاز مما قد يعرضها للتوقف عن العمل. للأسف فإن هذا الوضع المتأزم والمتمثل بالحرب في حد ذاتها أو مقاطعة الدول الغربية لروسيا بهدف ردعها عن الاستمرار في هذه الحرب قد أضرت بالاقتصاد العالمي سواء من خلال ارتفاعات أسعار النفط أو التسبب في شحه ونقص المعروض من مواد غذائية رئيسية الأمر الذي فاقم من مشكلة التضخم على الصعيد العالمي. قد تستند الدول الأوروبية في موقفها الى حجج أخلاقية مفادها أن اكتساح دولة كبيرة لدولة جارة أصغر وأضعف وانتهاك سيادتها لا ينبغي أن يكون أمرًا مقبولاً، كما أن الدول الأوروبية من ناحية آخرى تخشى أن تلاقي نفس المصير خاصة وأنها اعتقدت بأنها قد ودعت الحروب والمعارك مع نهاية الحرب العالمية الثانية. هل كان في الإمكان تجنب هذه الحرب وتداعياتها على صعيد الضحايا واللاجئين وكذلك الدمار الهائل والأضرار الاقتصادية على صعيد أوكرانيا وروسيا والعالم؟ في الواقع لا يمكن الجزم بذلك ولكن حسبما يبدو لم يتم بذل جهود دبلوماسية كافية لمحاولة تفهم مخاوف روسيا الأمنية المترتبة على انضمام مزيد من الدول لحلف الناتو على جزء مهم من حدود روسيا الجغرافية. هل الوقت الآن قد فات؟ لا أعتقد ذلك لكن المسار الدبلوماسي أصبح اليوم أكثر تعقيدًا وفي أية مفاوضات قادمة لحل هذه الأزمة ستفاوض روسيا من موقف قوة وعلى الدول الغربية أن تكون على استعداد لقبول بعض التنازلات المؤلمة والتي يمكن أن تكون أكبر من أية تنازلات كان يمكن القبول بها فيما قبل نشوب هذه الحرب. *الرئيس السابق لصندوق النقد العربي
مشاركة :