تعزيز السلم الأهلي هو الخيار الأمثل

  • 12/24/2015
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

من المفردات التي اكتظت بها صفحات القاموس العربي خلال السنوات الخمس الأخيرة هي السلم الأهلي أو السلم الاجتماعي. ويكمن وراء ذلك الرغبة في وضع حد لتنامي أشكال العنف وتعدد أنواعه، واتساع دائرة أسبابه، حتى تلاشت مقومات السلم الأهلي كي تفسح المجال أمام كل مظاهر الحقد والكراهية ونفي الآخر. نشهد ذلك رغم ارتفاع الأصوات التي لا تكف عن الدعوة للجوء إلى السلم الأهلي، وترسيخ قيمه، وتعزيز مفاهيمه، كي يستعيد المجتمع العربي مقومات استقراره، وينعم المواطن العربي بالسلم الاجتماعي، بل وحتى الاقتصادي الذي يبحث عنه. يجري ذلك رغم اتفاق نسبة عالية منا نحن العرب على التعريف الأكثر انتشاراً لمفهوم السلم الأهلي والذي تلخصه كاتبة شابة مثل ريتا عيد بأنه إن مفهوم السلم الأهلي يتضمن إقرار الجميع بالحفاظ على سلام دائم يرفض كل أشكال الاقتتال أو يدعو إليه أو يبرره، أو نشر ثقافة تعتبر التصادم والتقاتل حتمياً، بسبب حالة التباين والاختلاف، وتحويل مفهوم الحق بالاختلاف إلى أيدولوجية الخلاف، كما يقتضي السلم المجتمعي رفض وحظر اي خطابات إعلامية محرضة على العنف او تشجعه او تسعى إلى تحويل الاختلاف الفكري او العقائدي الى صدام دموي، لذلك لابد من محاربة خطابات الاعلام وممارسته المحرضة على العنف او الاقتتال الاهلي ورفض الآخر واقصائه بما قد يهدد تماسك المجتمع ويؤثر بشكل مباشر في استقرار أمنه. ومن المتوقع أن تزداد الحالة العربية سوءاً خلال السنوات القليلة القادمة بفعل العوامل التالية: 1. تداعيات الحروب العربية الداخلية، سواء في نطاق القطر العربي الواحد، أو على مستوى قطرين أو أكثر. فمن المغرب حتى الجزيرة العربية، اندلعت في البلاد العربية حروب خلَّفت وراءها الكثير من العوامل التي تتنافى وأبسط متطلبات السلم الأهلي، وقادرة على التفاعل والتناسل كي تضمن اتساع دوائر، وتغذية عوامل استمراره. وما يؤجج تلك العوامل، ويضاعف من انعكاساتها السلبية، كون الصدامات المسلحة غير مقتصرة على حروب تقليدية بين جيوش نظامية، بل باتت متداخلة بدرجة سمحت للانخراط في أتونها كل فئات المجتمع المختلفة، ومن مختلف الأعمار والفئات الاجتماعية، الأمر الذي يجعل من عملية إطفاء حرائق تلك الحروب، من أجل استعادة السلم الأهلي عملية شبه مستحيلة. ولابد من لفت النظر هنا إلى أن أحد إفرازات الحروب التي تنشط معاول هدم السلم الأهلي، لا يقتصر على الجوانب السياسية والاجتماعية، بل يتجاوزها كي يمس صلب الجوانب الاقتصادية. فالحروب تصرف نظر المسؤولين عن كل مشاريع التنمية، وخطط البناء والتطوير، وترغمهم على حصر تفكيرهم في كسب الحروب أو تفادي هزائمها، الأمر الذي من شأنه حرمان المجتمع، وفي صلبه المواطن، من كل احتياجاته، التي تصل في حالات معينة إلى الضرورية منها، بفضل استنزاف استعدادات خوض المعارك نسبة عالية من موارد البلاد وثرواتها. 2. التراجع غير المسبوق، منذ الارتفاع الأول لأثمان النفط في العام 1973، في أسعار النفط، بما فيه النوع العربي، المصحوب بتوقعات تقول باستمراره حتى يلامس الثلاثين دولاراً للبرميل الواحد. تزداد خطورة هذا التراجع في الأسعار، عند ما ندرك أن معظم موازنات البلاد العربية مبنية على أسعار لا تقل عن الثمانين دولاراً للبرميل الواحد. وطالما نحن نعيش في دول ريعية تعتمد على النفط كمصدر رئيس لتمويل موازناتها، وتسيطر على سلوك المواطن العربي كل أشكال زيف مجتمعات ذلك النمط الإنتاجي، فمن الطبيعي أن تشهد الأسواق العربية انكماشاً في أدائها ينعكس سلباً على ما كان متوفراً بين يدي المواطن. يؤدي ذلك كله إلى تعزيز الاحتقانات التي من شأنها تفجير صمامات السلم الأهلي، وإشعال الحروب التي ترغمه على التهاوي. 3. التدخل الخارجي الدولي، بمختلف أشكاله، وخاصة ذلك الذي تقوده الولايات المتحدة، والتي لها مصلحة مباشرة في عدم رؤية السلم الأهلي ينشر قيمه في ربوع المجتمعات العربية، فهذا يحرمها من إحكام سيطرتها على المنطقة، وإعادة رسم خارطتها السياسية وفقاً لمصلحة تلك القوى الخارجية، بدلاً من مراعاة مصالح الدول العربية واحتياجات مواطنيها من جانب، والاستفادة من الأموال الهائلة التي يعاد ضخها لأسواق تلك الدول من خلال صفقات السلاح، ومعاهدات الحماية التي باتت تأخذ أشكالاً مختلفة عن تلك التقليدية التي عهدناها في الحقب الاستعمارية السابقة من جانب آخر. 4. التسلل الإقليمي الخارجي، المعلن وغير المعلن، من طرف دول محاذية مثل تركيا، وإيران، وإسرائيل، لكل منها مصالحه الذاتية، التي ربما تتباين في التفاصيل والتنفيذ، لكنها تتلاقى في الأهداف والمضامين. فجميع هذه الدول الثلاث دون استثناء لأي منها، لها مصلحة مباشرة في عدم استتباب السلم الأهلي في المنطقة العربية، ولذلك يعمل كل منها، وفقاً لمصلحته الخاصة، كي يضمن استمرار الصدامات العنيفة التي تهدم كل مقومات السلم الأهلي وتنسف هياكلها من الداخل من جانب، ويكفل اسكات الأصوات المنادية بتعزيز ثقافة السلم الأهلي من خلال ممارسة قيمه من جانب آخر. كل ذلك يدعو كل مكونات المجتمع العربي، وفي المقدمة منها القوى السياسية النشطة، حكومات او قوى معارضة، كي تقرأ المشهد العربي السياسي بشكل صحيح، ومن منطلقات علمية. حينها ستجد نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الاستمرار فيما هي عليه، ومن ثم تهشيم مقومات بناء مجتمع حديث مستقر وآمن قابل للنمو والتطور، فنواصل الحروب المندلعة بيننا، ونستمر في القبول بما نحن عليه اليوم، وإما الانتفاض على هذا الواقع، والبدء في ترسيخ قيم ومفاهيم السلم الأهلي التي من شأنها انتشال البلاد العربية من وضعها المتردي الذي تعيشه، كي يتسنى لنا بناء مجتمع معاصر قادر على أن يأخذ مكانته التي يستحقها بين الأمم الناهضة. وهذا يجعل من السلم الأهلي الطريق الوحيدة القادرة على نفي الخيار الأول ودفعنا بشكل حضاري نحو الأخذ بالخيار الثاني.

مشاركة :