في عام 1978، وصلتُ إلى مبنى مؤسسة اليمامة الصحافية التي تصدر عنها جريدة الرياض. التحقتُ بالمؤسسة العريقة التي وضع لبنتها الأولى الشيخ حمد الجاسر عام 1953. دخلتُها من باب مجلة اليمامة، أبرز المجلات الأسبوعية في تاريخ الصحافة السعودية الحديث. منذ اليوم الأول شعرتُ بأن أهم شخص في هذا المبنى هو تركي عبدالله السديري، رئيس تحرير جريدة الرياض. لم يمضِ وقت طويل على تعرفي إلى الرجل المهم، أبو عبدالله. تركي السديري لم يكن رئيس تحرير بالمعنى المباشر، هو أهم من ذلك، كان قصة كبيرة. يصل إلى المبنى الثامنة صباحاً، ويقرأ الرياض صفحة صفحة، حتى لا أقول حرفاً حرفاً. كان نظره بدأ يضعف، وهو عنيد بطبعه، فصار يعاند عينيه، لا يرتدي نظارتين طبّيتين لتسهيل القراءة، لهذا يقرّب الجريدة إلى عينيه على نحو لافت، وفجأة يضعها، ويصيح منادياً أحد نائبيه الراحلَيْن محمد أبا حسين، ومحمد الجحلان، بطريقة يسمعها كل مَنْ في المبنى، ويسأل عن مقال، أو موضوع منشور، يغضب مرة، ويضحك ساخراً مرات. السديري لا يتدخّل في تفاصيل النشر، لكنه راسم سياسة من طراز فريد. اللافت أن شخصيته القيادية المتميزة، لم تنجح في صنع قيادات بمستواه. تركي السديري من ألمع الآباء المؤسسين للصحافة السعودية الحديثة. بنى الرياض، وجعلها جريدة واسعة الانتشار، تحظى بصدقية لدى قرائها، وسعى من خلالها إلى دعم التحديث في المجتمع السعودي. هو أول مَنْ فتح المجال الصحافي للمرأة السعودية، وجعلها جزءاً من قيادة العمل في الرياض، وتبنّى تيار الحداثة في الشعر والأدب والفن، وأفرَدَ له ملاحق، لَعِبَت دوراً مؤثراً في الحركة الثقافية في السعودية، وتحمَّلَ حماسة المثقفين وحماهم. لم يكن تركي السديري مسايراً للسائد، ولا رافضاً لتقاليد المجتمع. كان تقدُّمياً معتدلاً، ساند التحديث، وكان له سبق وتفرّد في تحقيق هذا الهدف، وهو تميّز عن آخرين، كونه قارئاً مختلفاً ومتفوقاً، في فهم رؤية المجتمع، ومزاج الدولة. استوعب هذه القضية في شكل متميز، ومارس جرأة شُجاعة ومحسوبة في طرح قضايا كثيرة، ودافع عنها بثبات، وفتح أبواباً، أحجَمَ غيره عن فتحها، فضلاً عن الدخول عبرها. هذا التوجُّه الصحافي البنّاء لم يتخذه السديري للمناكفة والسّعي إلى الشهرة. كان وطنياً غيوراً ومحباً. لم يسعَ إلى مجد شخصي من وراء هذه القضية، وهو كتَبَ كثيراً في هذا التوجُّه، وشكّل دوره حماية للآخرين، وشجّعهم على المضي في تحقيق رؤيته وهدفه، وأتاح لجريدة الرياض وكتّابها، مناخاً رحباً لممارسة هذا الدور، ونفّذه بلغة تصالحية رصينة، تُحقِّق الهدف، ولا تستفز الناس والدولة. كان ماهراً في كسب المجتمع والحكومة في آن، وسخّر توجّهات الرياض الإيجابية لدفع عجلة المجتمع إلى أمام، من دون إثارة وضجيج. تاريخ الصحافة السعودية سَيَذكُر لتركي السديري هذا الدور الرائد والنبيل. الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز، رحمه الله، وصفَ تركي السديري بأنه ملك الصحافة السعودية، وهو يستحق هذا اللقب. اللطيف في هذه التسمية، أن الملك عبدالله حين تولى المُلك، وجاء تركي السديري لمبايعته، همس الملك عبدالله، رحمه الله، وهو مبتسم قائلاً له: تراني صرت مثلك يا تركي. نقلا عن الحياة
مشاركة :