المحفز لكتابة مقال اليوم، ما كتبه توفيق السيف في صحيفة الشرق الأوسط تحت عنوان «دين العقلاء»، تزامنت مقالة السيف مع مقالة أخرى لوفاء الرشيد في عكاظ تحت عنوان «الدين والعقل»، وكلتا المقالتين تتناولان موضوعًا شائكًا، وهو العقل وعلاقته الجدلية بالدين، وكعادة كثير من الكُتاب العرب -مع كامل التقدير والاحترام للكاتبين الكريمين- كانت المقالتان تتعاملان مع العقل بتبسيطية مفرطة، وكأنه جهاز بسيط يحمل (كتالوجًا إرشاديًا مبسطًا) يمكن استعماله بأمان في كل المسائل والقضايا. التعامل التبسيطي للعقل في الأطروحات العربية الذي يصل مستوى التساهل هو نتيجة طبيعية لقلة الدراسات العربية المتعمقة عن العقل وإمكانياته وحدوده، العقل البشري هو معجزة إلهية لا زالت حتى عصرنا الحديث موضوعًا يلفه الغموض، يتعامل معه الكاتب العربي وكأنه يعرف أسراره وخباياه ويحيط بحدوده وإمكانياته، أو كأنه كيان مستقل يمكن فصله وتمييزه عن اللذة والمنفعة والغريزة. وطبعًا عند الحديث عن العقل لزام علينا طرح كتاب «نقد العقل المحض» للفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، بوصفه أهم دراسة متعمقة تتناول العقل البشري في تاريخ الحضارة الغربية دون مبالغة، فقد كان مشروع كانط في دراسة وتشريح العقل البشري مشروعا جبارًا بكل ما تعنيه الكلمة، فعند اطلاعك عليه تدرك جيدًا أنك أمام موضوع شائك ومعقد ومتداخل ومحير ينطوي على كثير من المنزلقات، بل إنك حين تتعمق أكثر في قراءة الكتاب تجد نفسك أحيانًا أمام موضوع يستحيل فهمه، فقد تناول إيمانويل كانط موضوع العقل البشري بكل جدية وبكل موضوعية وبدرجة كبيرة من التفصيل والتوسع، لدرجة أنك تجهل موقفه من توظيف العقل حتى في أبسط المسائل الحياتية، هذه الجدية الكانطية يقابلها تساهل مفرط لا حدود له بمسائل العقل عند بعض الكُتاب العرب كما ذكرنا. كانط في كتابه يتناول سؤالا عريضًا عنوانه: كيف يسلك العقل الطريق الآمنة لفهم المسائل الدينية الميتافيزيقية؟ وكان يكرر كثيرًا جملة (الطريق الآمنة)، وهذا يؤكد أنه يتعامل مع العقل بحذر شديد أو لنقل بعدم ثقة؛ لأن العقل حسب كانط قد يسلك طرقًا غير آمنة وخطيرة تؤدي به إلى تبني مزاعم لا أساس لها، فقد كان من أهداف كانط الغوص في أعماق العقل البشري وتحديد الطرق الآمنة والاستعمال المشروع للعقل، وكيف لهذا العقل أن يخوض في مجالات ميتافيزيقية دون أن يعرف شروط إمكاناته وحدودها؛ لذلك أخذ كانط يناقش في كتابه قدرة العقل التي تمنحنا مبادئ المعرفة القبلية أي المعرفة المستقلة عن كل تجربة تماما. ولأن كانط كما أسلفنا يتعامل مع العقل بجدية كبيرة، فإنه يفرق هنا بين المعرفة التي تمليها علينا الحواس والتجارب وبين المعرفة القبلية المستقلة عن حواسنا وتجاربنا، فهو يبحث عن معيار عقلي صرف بعيدًا عن معايير البشر التجريبية الفاسدة والفوضوية القائمة على الحواس المظللة والنوازع المخادعة. يدرك كانط جيدًا، أن الإنسان قد يتصرف أو يسلك سلوكًا معينًا معتقدًا أنه عقلاني أو ناتج عن تعقله، ولكن عند البحث العميق قد يثبت أنه يخدم مصلحته، فغالبًا ما يخدع المرء نفسه ويبرر سلوكه تبريرًا عقليًا وهو غارق في وحل الغريزة، وهكذا هو الإنسان يسهل دائمًا انقياده وراء ملذاته وأهوائه ومصالحه، إن عقولنا مرتبطة بالتجربة الحسية التي ترتبط بدورها بما هو عرضي ومتغير، لذا يعتبرها كثير من المفكرين غير صالحة لتكون أساسًا لبناء صرح أخلاقي شامل، كون الدين يرتكز في بعض جوانبه بالأخلاق. لذلك كان بحث كانط في العقل مرتبط جزئيا بالبحث عن أخلاق نقية وصافية غير مشوبة بشوائب الطبيعة الإنسانية.
مشاركة :