الاسم الأكثر تداولاً هذه الأيام في ما يتعلق بالشأن السوري، هو اسم المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرنتيف، فرجل المخابرات الخارجية الروسي المخضرم قرّر أن يقطع الشكّ باليقين ويكشف عن غسل روسيا يدها من اللجنة الدستورية السورية نهائياً، بمنعه وفد النظام السوري من المشاركة في الجولة التفاوضية الجديدة التي كان من المقرر عقدها في هذه الفترة. وقبل القمة الثلاثية، التي ضمّت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيريه التركي رجب طيب أردوغان والإيراني ّإبراهيم رئيسي في طهران، كان لافرنتيف يُجْهز على مسار اختطّه الروس أنفسهم في أستانة، وخاضت خلاله المعارضة السورية جولات غير ذات جدوى بإشراف الأمم المتحدة لمناقشة نسخة موعودة من الدستور السوري الجديد الذي لم يتعد البحث فيه حوارات حول المفاهيم والأسس الأولية حتى الآن. ● لافرنتيف لا يتصوّر أنه من المعقول أن يسعى شخص ما إلى وضع دستور جديد من أجل تغيير صلاحيات رئيس النظام، لأن هذا من وجهة نظره سيتسبب في تغيير السلطة في دمشق في الوقت ذاته لا يغيب عن لافرنتيف إيضاح موقف موسكو من العملية العسكرية التركية المرتقبة في الشمال السوري، والتي تحدث عنها الرئيس رجب طيب أردوغان ووسائل إعلامه مراراً في الآونة الأخيرة؛ حيث يهمس قائلاً “تبذل روسيا الاتحادية جهوداً لإقناع القيادة التركية بعدم اللجوء إلى أساليب القوة لحل المشاكل العاجلة، بل تدعوها إلى محاولة حلها من خلال المفاوضات، ومن خلال الحوار بين الأطراف المعنية وذات العلاقة”. رسائل واضحة ورغم أن بوتين لديه مبعوث رفيع المستوى معنيٌّ بالشأن السوري -هو السفير الروسي في دمشق ألكسندر يفيموف الذي عيّنه بوتين مبعوثاً خاصاً لتطوير العلاقات مع سوريا- فإن سيد الكرملين لا يثق في الدبلوماسيين وحدهم؛ فهو ابن مدرسة الاستخبارات، ويعرف أن استحقاقات متعددة الأوجه تنتظر من يتناول الملف السوري، لذلك يبقى لافرنتيف هو المهندس الحقيقي لكل من مساري “أستانة” و”سوتشي”. ويوصف لافرنتيف في الأوساط الروسية بالسياسي المحنّك، وتقول مصادر مطلعة في وزارة الخارجية الروسية لـ”العرب” إن خبراته السابقة الكبيرة جعلت من مهامه تتجاوز الملف السوري إلى العديد من الملفات في المنطقة، وكلما أدلى بتصريحات جديدة أثار لغطاً واسعا. لكن سرعان ما يتضح أن لافرنتيف إنما يتحدث عن القرارات الروسية قبل تنفيذها، ولا يقول كلاماً مرسلاً؛ وهذا ما نتبينه من قوله في العام الماضي -وفي وقت يعتبر مبكّرا بالنسبة إلى توقيت إنشاء اللجنة الدستورية- إن الغرض من اللجنة الدستورية يجب ألا يهدف إلى تغيير السلطة في سوريا، وإن “الحكومة السورية راضية عن الدستور الحالي، وفي رأيها لا داعي إلى إجراء تعديلات”. فقد كان يكشف عن تحوّل منتظر في الواقع، إلا أن المعارضة السورية تنكره وتحاول التقليل من شأنه، ومرّد ذلك نية الروس قلب الطاولة بالفعل وإسدال الستار نهائياً على مسلسل اللجنة الدستورية واجتماعاتها التي صارت عبئاً على الروس. ◙ لافرنتيف يوصف في الأوساط الروسية بالسياسي المحنّك، وتقول مصادر مطلعة في وزارة الخارجية الروسية لـ"العرب" إن خبراته السابقة جعلت مهامه تتجاوز الملف السوري إلى العديد من ملفات المنطقة ● لافرنتيف يوصف في الأوساط الروسية بالسياسي المحنّك، وتقول مصادر مطلعة في وزارة الخارجية الروسية لـ"العرب" إن خبراته السابقة جعلت مهامه تتجاوز الملف السوري إلى العديد من ملفات المنطقة ولا ينفصل المتغير الدولي عن موقف الروس الجديد من مواصلة عقد جلسات اللجنة الدستورية، فحربهم ضد أوكرانيا خلّفت ردود فعل واسعة في العالم، حتى سويسرا -الدولة المحايدة- اضطرت إلى اتخاذ موقف سلبي حيال الروس، ما أغضب بوتين ومن ثم لافرنتيف. وتعتقد المعارضة السورية أن القصة قصة شكلية، وأن الغضب الروسي سببه إجراءات التدقيق في الجوازات وتأشيرات سفر الوفد الروسي التي فرضتها سويسرا. غير أن لافرنتيف، إذ يقول لهم ما يجعلهم يتوهمون ذلك، كان في المقابل قد بشّر بموقف بلاده من قبل، حين قال للتلفزيون الروسي إن التسوية السياسية في سوريا “لا تزال تشكل أولوية بالنسبة إلى روسيا، رغم العملية العسكرية في أوكرانيا”، مضيفا “كثيرون الآن، ربما سمعتموهم يقولون إنه فيما يتعلق بالعملية العسكرية الخاصة ضعف اهتمام روسيا بسوريا، لكن الكثير من الدول الأوروبية ترى تطور الوضع في سوريا وفق وجهات نظرها الخاصة”. وأعلن لافرنتيف الشهر الماضي أنه سيكون من الصعب جداً على الروس الآن المشاركة في محادثات تجري في بلد مثل سويسرا، وبيّن الإجراءات الفعلية التي اتخذها حيال موضوع التحوّل عن جنيف (حيث كانت تجري الجلسات) إلى مكان آخر بالقول “طرحنا هذه القضية من حيث المبدأ، مع الأخذ في الاعتبار الصعوبات اللوجستية الحالية وفقدان جنيف لوضعها المحايد، لإعادة النظر واختيار مكان آخر محايد للدورة المقبلة للجنة الدستورية، إلا أن موضوع اختيار مكان جديد لاجتماعات اللجنة الدستورية السورية يكتسب دلالة سياسية أكثر، بالنظر إلى السياسة العدائية التي تنتهجها سويسرا”. ويعكس لافرنتيف ما يدور في أذهان الروس حين يكشف أنه من الممكن أن تكون أبوظبي أو مسقط أو المنامة أماكن مناسبة لعقد جلسات التفاوض حول الدستور السوري، وألحق بتلك العواصم الجزائر معتبراً إياها وجهة ممكنة أيضاً، إضافة إلى العاصمة الكازاخية نور سلطان. أمن روسيا ● روسيا تحاول إقناع تركيا بالعدول عن استعمال القوة والتراجع عن العملية العسكرية المحتملة في الشمال السوري ● روسيا تحاول إقناع تركيا بالعدول عن استعمال القوة والتراجع عن العملية العسكرية المحتملة في الشمال السوري ويبدو كلام لافرنتيف في انتقاداته للغرب معقولا وصريحا؛ فهو ربما يقول ما لا يقوله السوريون أنفسهم، خاصة منهم المعارضين، فالغرب في نظر لافرنتيف لم يف بالتزاماته التي تعهد فيها بتنفيذ مشاريع الإنعاش المبكر. ولذلك، وفي ظل هذه الظروف، يضيف لافرنتيف “ربما نفكر في تطوير بعض الآليات الجديدة لتقديم المساعدة واستعادة الاقتصاد ال سوري من قبل المجتمع الدولي”. هذه ليست رسالة عادية، فهنا يشير لافرنتيف إلى إدماج سوريا في النظام الاقتصادي الروسي كلياً، وهذا يعني -من جملة ما يعنيه- أن هناك تحديا سياسياً لأن روسيا ليست وحيدة في ذلك النظام، حيث تجاورها وتشاركها فيه دول تتخذ مواقف تعتبرها دمشق معادية لها، مثل تركيا. ● بوتين ابن مدرسة الاستخبارات، ويعرف أن شخصية متعددة الأبعاد يجب أن يتتمع بها المكلّف بالملف السوري، لذلك يُبقي لافرنتيف متحكماً به لكنه ينتقل من حالة التفاوض السورية – السورية المجمدة حاليا إلى رسم سيناريو روسي تم تطبيقه خلال الأعوام الماضية في الجنوب وبعض المناطق الواقعة تحت سيطرة بشار الأسد، عبر ما يعده لافرنتيف تطويراً للتسوية السياسية من أجل تشكيل لجان المصالحة الوطنية. ولا يتصوّر لافرنتيف أنه من المعقول أن يسعى شخص ما إلى وضع دستور جديد من أجل تغيير صلاحيات رئيس النظام، لأن هذا من وجهة نظره سيتسبب في تغيير السلطة في دمشق، وهذا الطريق لا يؤدي إلى تحقيق أي مكسب. لا يتحدث لافرنتيف عن السياسة والاقتصاد وحسب، بل أيضاً عن الأمن القومي الروسي، وهو من المؤمنين بأن نطاق النفوذ الروسي هو نطاق التهديد الأمني لروسيا ذاتها، ولذلك فإن روسيا معنية أيضاً بضبط أعدائها المحليين الذين يقول لافنتيف إن سلاح الجو الروسي يطاردهم في سوريا، ومن بينهم قيادات شيشانية مطلوبة من قبل موسكو، وفي الشتاء الماضي كان هو من نقل خبر القضاء على مارغوشفيلي في الشمال الغربي من سوريا. من جهة ثانية فإن مسؤولية لافرنتيف تتوسع لتشمل تنسيق العلاقات الروسية – الإيرانية على أعلى المستويات، وهو يشرف بنفسه على حدود نفوذ كل من الطرفين في سوريا، سواء على الساحة الدولية أو على التراب السوري، ونظريته تقوم على إنشاء حالة توافق ثلاثية تشمل تركيا وروسيا وإيران، معتبراً أن تركيا وإيران تمتلكان حق المشاركة في مراقبة مناطق خفض التوتر في الأراضي السورية الملتهبة وتلك التي طبقت فيها اتفاقات هدنة. ● لافرنتيف يكشف أن الروس يفكرون في أبوظبي أو مسقط أو المنامة كبدائل عن جنيف ● لافرنتيف يكشف أن الروس يفكرون في أبوظبي أو مسقط أو المنامة كبدائل عن جنيف وغالباً ما يراقب العالم تصريحات سيرجي لافروف وميخائيل بوغدانوف، إلا أن الضربات تأتي في الواقع من لافرنتيف، فهو لم يكتف بطرح تصورات خارج الصندوق، وإنما ضمن لها موافقة الكرملين عليها ودعمه لها وتطبيقها، وفي الكثير من الأحيان يظهر كمن يطرح بالونات اختبار تسويقية لكسب المناصرين السياسيين وضمهم إلى الخارطة السورية، ويتبين ذلك من خلال اقتراحه مشاركة الصين ومصر والعراق ولبنان وكازاخستان في مراقبة مناطق خفض التوتر في الشمال السوري. وأكثر ما يزعج لافرنتيف هو الوجود الأميركي في شمال شرق سوريا، وجود يعتبره احتلالاً، وكثيراً ما طالب الأميركيين بالكف عن التدخل في الشأن السوري فهذا الوجود كما يقول “غير شرعي في الشمال الشرقي بحجة محاربة داعش. في الواقع، الوحدات الأميركية الموجودة هناك تعمل أساسا على حماية حقول النفط، وتنهب في الواقع كنزاً وطنيا سورياً”. ● لافرنتيف يعكس ما يدور في أذهان الروس حين يكشف أنه من الممكن أن تكون أبوظبي أو مسقط أو المنامة أماكن مناسبة لعقد جلسات التفاوض حول الدستور السوري وحين كان الأميركيون يطالبون -كما يفعلون إلى حد اليوم- بتطبيق بيان جنيف (اتفاق أميركي – روسي حول تسوية الأوضاع في سوريا) كان لافرنتيف يكشف عن أن التنسيق بين روسيا والولايات المتحدة في أدنى مستوياته، وأنه يؤذن بالانفجار في وقت قريب جداً. وفي الوقت الذي ينسّق فيه لافرنتيف عمليات تقدم قواته العسكرية الدقيقة في الشمال الشرقي مع حزب العمال الكردستاني المهيمن على قوات سوريا الديمقراطية التي تدعمها الولايات المتحدة، لا ينسى الحديث عن “وحدة سوريا”، فهو يرفض بشدّة كل ما من شأنه “المساس بسيادة ووحدة الأراضي السورية”. المحنك المتهكم وبحنكته يبقى لافرنتيف ذلك الهادئ الرصين والمطابق للمواصفات الروسية التقليدية، مع نبرة متهكمة حتى على حلفائه إن اقتضى الأمر، ألم يسخر من رواتب الوزراء والموظفين لدى حكومة الأسد، والتي لاتتجاوز 60 دولارا أميركيا؟ إذ قال “إن راتب الموظف أو الوزير زهيد جداً ولا يمكّن حتى من شراء بضعة سندويشات ‘شاورما"”، مطالباً الدول الأوروبية بالتدخل والمساعدة على إصلاح البنية التحتية في سوريا، وهي ذاتها البنية التحتية التي قصفتها روسيا قصفاً عنيفاً مستخدمة أحدث أنواع الأسلحة والتكنولوجيا العسكرية المتقدمة. وأغلق الروس اليوم طريق اللجنة الدستورية مؤقتاً، وهم واعون بما أقدموا عليه. فهذا الضغط لا بد أن يجعل الفاعلين في الملف السوري يقدّمون المزيد من التنازلات. وليس بالضرورة أن يكون ذلك مقتصرا على سوريا، فلدى الروس الكثير مما ينتظرونه من الغرب بدءاً من سلاسل العقوبات المشددة وعقود الدولار والروبل، ومرورا بإمدادات الطاقة، ووصولاً إلى إعادة تركيب الجبهة الأوراسية ودفع تركيا بعيداً عن الناتو الذي تقول إنه خذلها.
مشاركة :