خلال الأيام التي سبقت الغزو الروسي لأوكرانيا، استبعد عدد من الصحافيين والمحللين والناشطين المرموقين أن يعطي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الضوء الأخضر لشن هجوم يحمل مخاطر كبرى. استعمل هؤلاء عقليات سياسية متنوعة لاستبعاد الحشد العسكري والاستخفاف بالخطابات التصعيدية، وكل من هذه التفسيرات يرتكز على ثلاثة أخطاء: تجريد الخصوم من القدرة على التحرك، وتطبيق الخبرات الشخصية على الأطراف الأخرى، وإسقاط منطق منفصل ومقبول على الواقع القاتم الذي تجسّده أقوال وأفعال القادة الأجانب. يفترض أكثر الأشخاص اطلاعاً على التطورات السياسية أن القادة يخفون الأهداف التي يريدون تحقيقها أو يُموّهون الأفكار الكامنة وراءها. لهذا السبب، تشكّل الحرب الروسية المستمرة ضد أوكرانيا نقطة تحوّل مفصلية بالنسبة إلى صانعي السياسة والصحافيين والمراقبين العاديين، فهي تدعوهم إلى وقف أحكامهم الخاطئة بحق خصومهم من خلال تجاهل ما يقولونه علناً وصراحةً؛ إنه الوقت المناسب لتقييم مواقف قادة العالم التي تنذر باندلاع صراع كارثي. قد يكون سعي القادة الإيرانيين إلى تدمير إسرائيل من أبرز الأمثلة على هذا النهج. رغم وفرة التصريحات المعادية للسامية وإسرائيل من جانب إيران على مر 43 سنة بعد الثورة الإسلامية، قوبلت رغبة الحكام الإيرانيين الإسلاميين في تدمير إسرائيل بالاستخفاف أو أُعطِيت تفسيرات سياسية مختلفة في معظم الأوقات. تكتب الجمهورية الإسلامية عبارة «الموت لإسرائيل» على اللافتات أثناء مرور المواكب الرسمية، وتطلق صواريخ بالستية ضد مواقع على شكل نجمة داود، وتعرض أو تختبر صواريخ بالستية تحمل شعارات تنذر بإبادة إسرائيل باللغة العبرية، حتى أنها تضرب نموذجاً مصغراً من مفاعل نووي إسرائيلي بطائرات مسيّرة وصواريخ بالستية خلال التدريبات العسكرية، وتهاجم الرموز الإسرائيلية والأميركية خلال المسيرات العسكرية. على صعيد آخر، أصبح الكلام عن تدمير إسرائيل جزءاً طبيعياً من الخطابات السياسية الإيرانية التي تدعمها هتافات «الموت لإسرائيل»، وتعليقات المسؤولين العسكريين ورجال الدين، والبيانات الصحافية والفيديوهات التي تنشرها وسائل الإعلام، لكن أخطرها يصدر على الأرجح من المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي. يعتبر قادة إيران الإسلاميون المواقف المعادية لإسرائيل مفيدة على المستويَين الاستراتيجي والفكري، ومن الواضح أنها ساعدت طهران على محاولة كسب قلوب المسلمين والعرب السُّنة عبر رفع راية الدفاع عن القضية الفلسطينية. تمكنت إيران الفارسية والشيعية بهذه الطريقة من تحقيق أهداف تفوق قدراتها الحقيقية ضد النظام الراسخ في الشرق الأوسط، لكنّ التعامل مع آراء النظام الثوري المعادية للسامية وإسرائيل وكأنها مواقف شفهية عابرة أو مجرّد غطاء للواقعية السياسية أو سياسة القوة يغفل عن الوقائع القائمة، حتى أن هذا النهج يجازف بتكرار الأخطاء التي ارتكبها المحللون في تعاملهم مع بوتين، ما يعني عدم أخذ كلام قادة الدول الأخرى على محمل الجد. لكنّ تحلي إيران بالصبر واتكالها على العملاء في خضم سعيها إلى تدمير الدولة اليهودية لا يعني أنها لا تنوي إبادتها فعلاً، وقد أثارت محاولات الجمهورية الإسلامية غير المنطقية تصنيع قنبلة نووية خلال عهد محمود أحمدي نجاد (بين عامي 2005 و2013) ضجة كبرى، لكن النزعات السائدة في السياسات الخارجية والأمنية الإيرانية في آخر أربعة عقود تثبت أن المخاوف تبقى مبررة من نظامٍ يدعم فكرة «الغاية تبرر الوسيلة»، ويُعدّل مقاربته رداً على الحوافز الخارجية، ويفرض تكاليف كبرى على الآخرين حين تسنح له الفرصة. في «يوم القدس» في السنة الماضية، أكد خامنئي على اختلاف المسار بين إسرائيل و»محور المقاومة»، إذ تواجه إسرائيل «تراجعاً مستمراً» بينما يتجه محور المقاومة إلى «مستقبل مشرق» بسبب عوامل عدة مثل «زيادة القوة الدفاعية والعسكرية والاكتفاء الذاتي في مجال بناء الأسلحة الفاعلة». تكلم خامنئي مثلاً عن تطور القدرات الهجومية الفلسطينية طويلة المدى، وهو إنجاز ينسبه عدد كبير من المحللين إلى طهران. قال خامنئي: «دافع الشباب الفلسطيني عن نفسه يوماً عبر رمي الحجارة، لكنه يردّ على العدو اليوم عبر صواريخ دقيقة التوجيه». على نطاق أوسع، لم يكن تكاثر عملاء إيران على حدود إسرائيل مجرّد مصادفة، ولم يكن نمو ترسانات مدافع الهاون والصواريخ والطائرات المسيّرة عرضياً أيضاً، إذ تهدف هذه التحركات كلها إلى تقليص خيارات إسرائيل السياسية تدريجياً عند مواجهة القوة العسكرية التي تملكها إيران وعملاؤها. ومع مرور الوقت، يهدف إضعاف التوازن الإقليمي إلى إقناع الدولة اليهودية بأن التخلي عن المقاومة مرادف للخنوع. ستكون إيران المسلّحة نووياً والمدعومة من شبكة عملاء فتاكة، مثل «محور المقاومة»، كفيلة بزيادة جرأة الجمهورية الإسلامية ودفعها إلى تنفيذ مهمّتها الإيديولوجية وفرض أي نتيجة تريدها. بفضل المظلة النووية، قد يُجبِر خامنئي إسرائيل على ارتكاب انتحار وطني عبر استفتاء مشحون ديمغرافياً، حتى أن الموقع الإلكتروني التابع لخامنئي اعتبر هذه الخطوة «الحل الأخير». من خلال زيادة فرص استخدام الأسلحة النووية، لا مفر من دفع الجمهورية الإسلامية إلى تطبيق مبادئها المعلنة، وفي هذا السياق، لم يذكر آية الله، علي أكبر هاشمي رفسنجاني، شيئاً عن منطق الدمار المؤكد المتبادل، لكنه قال في عام 2001: «إذا أصبح العالم الإسلامي يوماً مجهّزاً بالأسلحة بقدر إسرائيل، فستصل استراتيجية «الغطرسة» حينها إلى طريق مسدود لأن استعمال قنبلة ذرية في إسرائيل لن يترك شيئاً وراءه. في المقابل، سيواجه العالم الإسلامي بعض الأضرار بكل بساطة». مع ذلك، يُصِرّ البعض على تجاهل هذه المواقف رغم تماسك الخطوات والتصريحات المعلنة في مجال السياسة الخارجية، وبرأي هذا الفريق من المراقبين، تكون بنية الخطط أهم قوة في العلاقات الدولية، لذا تُعتبر سياسة إيران الخارجية مجرّد محاولة للرد على التهديدات الإسرائيلية المزعومة، فتعكس بذلك واقع المنافسة الشرسة في سياسة الشرق الأوسط. تُعبّر هذه التصريحات عن آراء ورغبات النخبة السياسية والعسكرية في الجمهورية الإسلامية، لكنها لا تمثّل توجّه الشعب الإيراني ككل، إذ يحتجّ الإيرانيون من جهتهم على الوضع القائم ويعارضون السياسة الخارجية الثورية والمعادية لإسرائيل، فيهتفون: «لا غزة ولا لبنان، أنا أضحي بحياتي في سبيل إيران!»، أو «فلسطين وسورية سبب تعاستنا»، أو «انسوا سورية وفكروا بنا»! تتعارض أولويات حكومة إيران الإسلامية والعابرة للحدود مع رغبات سكانها وقِيَمهم، لكنها تشير إلى طريقة تصميم الجمهورية الإسلامية وليست عيباً فيها. في النهاية، عارض خامنئي شخصياً مفهوم القومية بالشكل الذي يعرفه الشعب، وأعلن أن «الشعب القومي لا يحتاج إلينا، بل الشعب المسلم هو الذي يحتاجنا». مقابل كل موقف معاد لإسرائيل من أعضاء النخبة الإسلامية في إيران، ثمة فصول وتصريحات مشابهة ضد الولايات المتحدة. تعلو هتافات «الموت لأميركا» إلى جانب شعار «الموت لإسرائيل» في مناسبات كثيرة، وتُحرَق الأعلام الأميركية إلى جانب الأعلام الإسرائيلية دوماً. كذلك، يستهدف عملاء إيران منشآت الجيش الأميركي في أنحاء المنطقة، بمساعدة الحرس الثوري الإيراني، ويضايق هذا الحرس السفن البحرية الأميركية مباشرةً في الخليج العربي ومضيق هرمز. في الوقت نفسه، لا يتردد النظام مطلقاً في الازدراء بخصومه الأميركيين والإسرائيليين، أو مضايقتهم، أو تصعيد الوضع ضدهم، لكن من دون بلوغ المستوى الذي يُحتّم عليهم مواجهة عقوبات أو أضرار خطيرة. بسبب الضغوط التي فرضتها العقوبات على البلد، سمح خامنئي للدبلوماسيين الإيرانيين بالتفاوض مباشرةً مع الولايات المتحدة في عام 2013، على اعتبار أن إيران تريد إثبات «مرونة بطولية» ضد خصومها. لكن مقابل العقوبات التي لم تُعطِ الأثر المنشود بين عامي 2021 و2022، شعر خامنئي براحة كافية لتوزيع الدبلوماسيين الأميركيين على قاعات مختلفة أو وضعهم على «طاولة الأطفال»، كما يقول بعض المحللين، خلال المحادثات الرامية إلى إعادة إحياء الاتفاق النووي المبرم عام 2015. حين يتغير ميزان القوى، يصبح النظام أكثر عدائية طبعاً ويستطيع التحرك انطلاقاً من دوافعه الأيديولوجية. نتيجةً لذلك، يجب ألا تبدأ أي سياسة متماسكة تجاه إيران، من جانب واشنطن أو القدس أو أي عاصمة أخرى تستهدفها انتقادات الجمهورية الإسلامية، بتفسير كلام القادة الإيرانيين عشوائياً، بل يُفترض أن يسمع المسؤولون في تلك الدول حقيقة ما يُقال ويشاهدوا الخطوات الملموسة التي تتخذها إيران. إنها الحيلة التي حاول وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، استعمالها ضد بوتين حين تكلم أمام مجلس الأمن في الأمم المتحدة، في نيويورك، في شهر فبراير الماضي. قال بلينكن حينها: «قولوا إن روسيا لن تُقدِم على غزو أوكرانيا، أعلنوا عن ذلك بكل وضوح أمام العالم أجمع، ثم أثبتوا صحة هذا القول عبر إعادة قواتكم العسكرية ودباباتكم وطائراتكم إلى ثكناتها وحظائرها وأعيدوا الدبلوماسيين إلى طاولة المفاوضات». هل ستعلن الجمهورية الإسلامية بكل وضوح يوماً أن إسرائيل لن تتدمر وأنها لا تتمنى الموت لأميركا، ثم تتصرف على هذا الأساس؟ كل من يسخر من هذا الاحتمال يدرك طبيعة مواقف القادة الإيرانيين منذ البداية.
مشاركة :