في نفس اليوم الذي هبط فيه الرئيس الأميركي جو بايدن على أراضي المملكة العربية السعودية في وقت سابق من هذا الشهر، شقت ما يقرب من 200 ألف حاوية طريقها إلى موانئ من طنجة إلى دبي، وعبر مئات الآلاف من مسافري الخطوط الجوية عبر مطارات المنطقة، وتدفقت تحويلات بالملايين من الدولارات من المنطقة إلى دول العالم النامي، كما باع عدد لا يحصى من الشركات الأميركية بضاعتها إلى الطبقة الوسطى العربية المتنامية. وكان النفط والغاز، والذي كان يوما ما عامل الجذب الرئيسي للغرب، بمثابة عنصر مُكمل، بمعنى آخر، كان مجرد يوم عمل آخر في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ويقول الباحث والخبير السياسي أفشين مولافي إنه بناء على ذلك فإن شركات النقل والمواصلات ستقود مستقبل الشرق الأوسط وليس النفط. ويذكر مولافي وهو أيضا زميل أول في معهد السياسة الخارجية بكلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة ومحرر ومؤسس النشرة الإخبارية للعالم الصاعد، حججا عديدة تبين صحة وجهة نظره. وركزت السياسة الإقليمية للولايات المتحدة بشكل شبه كلي ولفترة طويلة على ثلاثية الأمن والجغرافيا السياسية والنفط، ولقد حان الوقت للولايات المتحدة، والعالم الغربي، لتوسيع نظرته لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ورؤيتها على حقيقتها، وليس النظر إليها من خلال عدسة حقبة السبعينات. أفشين مولافي: الاتصال بالعالم الأوسع هو الخط الفاصل الحقيقي للنجاح وعندما صاغ الاستراتيجي البحري الأميركي ألفريد ثاير ماهان مصطلح “الشرق الأوسط” في أوائل القرن الماضي، كان في تلك الفترة يبحث عن طريقة لوصف الأراضي الواقعة بين الهند وأوروبا، وقد ثبت ذلك المصطلح في الأذهان، ولكنه محدود ومثقل بتاريخ الصراع وتفوح منه رائحة الحقبة الاستعمارية، والأسوأ من ذلك كله أنه غير ذي جدوى، مثله مثل ثنائية بايدن الاستبدادية والديمقراطية المتكررة. ولكن بالرغم من قدم المصطلح، فإن البلدان التي يشملها لديها الكثير من القواسم المشتركة، بما في ذلك الجغرافيا التجارية والاستراتيجية، فتلك الدول في وسط العالم أكثر من كونها في وسط الشرق. ويقول مولافي إن الخط الفاصل الحقيقي للنجاح في المستقبل سيكون الاتصال بالعالم الأوسع، وليس الطائفية الدينية أو التحالفات الجيوسياسية أو نوع الحكومة. فلنأخذ خطوط الملاحة الجوية على سبيل المثال، حيث لدى معظم دول الخليج العربية وإيران مدن تستغرق الرحلة منها أربع ساعات إلى ثلث العالم وثماني ساعات بالطائرة إلى ثلثي الكوكب. وللاستفادة من ذلك الموقع الجغرافي الذي تُحسد دول الشرق الأوسط عليه، أنشأت دبي والدوحة وأبوظبي وكذلك إسطنبول مراكز جوية وبنجاح كبير، ففي عام 2014 تجاوز مطار دبي الدولي مطار لندن هيثرو باعتباره أكثر المطارات الدولية ازدحاما في العالم. وهناك قصة مشابهة في شمال أفريقيا لسلسلة التوريد والشحن التجاري، حيث تتمتع العديد من دول الشمال الأفريقي بسواحل مطلة على البحر المتوسط ، كما تتمتع بسهولة الوصول الجوي والتجاري إلى أوروبا، وأصبح المغرب وتونس من المنصات الرئيسية في سلاسل توريد السيارات والطيران في أوروبا، وترصد قناة السويس المصرية حوالي 30 في المئة من تجارة الحاويات العالمية والتي تمر عبر مياهها سنويا. وتذكرنا الكاتبة والصحافية كيم غطاس في كتابها الممتاز “الموجة السوداء” بمدى تأثير عام 1979 في رسم ملامح المنطقة، حيث شهد ذلك العام الثورة الإيرانية، والغزو السوفيتي لأفغانستان، وغيرها من الأحداث. لكن مولافي يقول إنه إذا عدنا إلى عام 1979، فقد كان هناك حدث آخر أقل شهرة يستحق التذكر أيضا وهو افتتاح ميناء جبل علي في دبي، وهو اليوم أحد أكثر الموانئ ازدحاما في العالم، وبناء على مشهد الحاويات المكدسة على مد البصر، يعد جبل علي رمزا للعولمة ومثالا للقيادة المحلية في العمل، واستفاد الميناء والمناطق الحرة المرتبطة به من مورد لا ينضب أبدا لبناء مركز رئيسي للتجارة والشحن وذلك المورد هو جغرافيا دبي. كما تدعم استثمارات المملكة العربية السعودية في البنية التحتية للاتصالات مثل المطارات والسكك الحديدية والموانئ عمليات التعافي الاقتصادي الإقليمية والعالمية، وصنف تقرير حديث للبنك الدولي ميناء الملك عبدالله في جدة على أنه أكثر محطات الحاويات كفاءة في العالم. وفي الوقت نفسه، تضخ المملكة العربية السعودية المليارات في قطاع الطيران في المملكة، بهدف زيادة عدد الركاب الذين يسافرون عبر مطاراتها إلى أكثر من ثلاثة أضعاف بحلول عام 2030، وكان قطاع السفر والسياحة العالمية قبل الوباء يشغل واحدة من كل عشر وظائف عالمية وأكثر من 10 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، واليوم تقود شركات الطيران في المنطقة مثل طيران الإمارات والخطوط الجوية القطرية والخطوط الجوية التركية والسعودية الانتعاش العالمي في هذا القطاع. مطار دبي.. أيقونة عالمية مطار دبي.. أيقونة عالمية وتساهم دول مجلس التعاون الخليجي بصورة عامة في الترابط الاقتصادي من خلال التحويلات والمساعدات، حيث أن التحويلات المالية تفوق بكثير المساعدات الأجنبية والاستثمار المباشر وهي أكبر مصدر لعائدات العملات الأجنبية في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل. وتدفقت مئات المليارات من الدولارات من دول الخليج العربية إلى العالم النامي وعلى الأخص جنوب آسيا على مدى العقد الماضي، وتلك التحويلات هي جزء حيوي من قصة التنمية. وأخيرا، أصبحت طبقة ريادة الأعمال التكنولوجية الصاعدة مصدرا رئيسيا للفخر الاقتصادي للإقليم، وكان المحلل الاقتصادي يأمل أن يتجاهل بايدن خلال زيارته المملكة زيارة القصور ويلتقي بأشخاص مثل فادي غندور وهو رجل الأعمال الأردني الذي أسس شركة فيديكس في المنطقة وأرامكس، والذي يعمل اليوم كمستثمر ومثال للنساء والرجال الذين ينشئون ويبنون شركات ناشئة جديدة من عمان إلى أبوظبي، وقد اجتذبت الشركات الناشئة في المنطقة ما يقرب من مليار دولار في الربع الأول من هذا العام، ويمثل ذلك ضعف حصيلة العام الماضي. وفي حين أن عامل التواصل الصاعد يوفر بصيصا من الأمل، لكن لا تزال هناك إخفاقات كبيرة. والمثال الأول لتلك الإخفاقات هو لبنان، وهو بلد الموهوبين المحتجزين كرهائن من قبل السياسيين الجبناء، ويعاني لبنان حاليا من أسوأ الانهيارات الاقتصادية في العصر الحديث، وتشهد إيران نفس الأحداث، وفي الوقت نفسه، تواجه الدول غير النفطية في المنطقة ارتفاع معدلات البطالة، وارتفاع أسعار النفط، واضطرابات سلسلة التوريد، فضلا عن التباطؤ العالمي. لكن لا تستطيع تلك التحديات، وفق أفشين مولافي، إخفاء الفرص الكبيرة التي يتمتع بها الإقليم، حيث تنعم منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمورد لا ينضب أبدا وهو الجغرافيا الاستراتيجية، وستكون البلدان والمدن التي تستفيد من موقعها الجغرافي مهيئة تماما للمنافسة في القرن الحادي والعشرين، أما من فشل في استغلال مزايا موقعه الجغرافي فسيبقى في مؤخرة الركب، وجزءا من الشرق الأوسط القديم، وليس جزء من الشرق الأوسط الصاعد، وتلك هي القصة التي يجب أن يرصدها ويدعمها الرئيس الأميركي بايدن. ShareWhatsAppTwitterFacebook
مشاركة :