عبر متابعات يسيرة في وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من المحافل التي أشهد بعضها، يتململ البعض ممّن يُحسبون على الأدباء من شعراء شباب أو غيرهم أو من بعض النُقّاد، باستفهام استنكاريٍّ عن الرمزية التي أحيطت بالجواهري، ولماذا تُعقد بعض المهرجانات الشعرية باسمه؟ ولماذا يوضع له نُصب في مقر اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين من دون سائر شعراء العراق؟ ولماذا يُعاد من جديد طبعُ ديوانه؟ ولماذا تُكتبُ عنه الدراسات الأكاديمية التي وصل تعدادها أكثر من الثلاثين دراسة في مختلف جامعات العراق، ناهيك عن الدراسات الأكاديمية عنه في جامعات الدول العربية وغيرها، ناهيك عن الكتب التي اشتغل بعضها على شعره وشخصيته في دراسات نقدية مستقلة عنه وبعضها اشتغل على شعره في ضمن دراسة لأشعار آخرين من جيله؟ ولماذا؟ ولماذا؟ وفي مقام الجواب، أقول: إنَّ الشخص أيًّا كان انتماء هويّته دينيًّا أم اجتماعيًّا أم سياسيًّا أم أدبيًّا، لا بُد من أن تتوفّر فيه ثمّة مقوّماتٌ تؤهّلهُ لأنْ يُحقِّق رمزيّته في الميدان الذي يشغلُهُ، وهذه المقوِّمات يستمدُّها بصورة ذاتية أي أنّها ليست بخيارٍ منه، والجواهري كما نعلم كان قد توفّر فيه هذا الجانب؛ فهو من أسرة جليلة القدر في مكانتها الدينية والاجتماعية والعلمية، وأرى أنَّ هذا الجانب وإنْ حفرَ للجواهري مكانته في نفوس متلقّيه، ولكنّه ليس السببَ الرئيس الذي جعله يمتلك تلك الرمزية العالية بين الشعراء، فغيره من شعراء العراق أيضًا كان ينحدر من مقامات اجتماعية أو دينية أو سياسية، ولكنهم لم يصلوا إلى ما وصله الجواهري من مكانة، وهنا نجد المقوِّمات الموضوعية التي حقّقها الجواهري بما سعى إليه واجتازه من خطواتٍ أخذت به إلى تلك المكانة بين شعراء العرب بعامة وشعراء العراق بخاصة، فمن المعلوم أنَّه أحد الشعراء القلائل الذين كرّسوا حياتهم منذ نُعومة أظفاره وإلى نهاية محطّات عمره في الشعر، ولأنَّ عمرهُ الطويل الذي تمدّدَ زمنيًّا على مدار القرن العشرين، كان شعرهُ سجلًّا حافلاً بأحداث مهمة عصفتْ بذلك القرن، كثيرٌ منها يتّصل بالعراق وما جاوره من دول عربية، والجزء الآخر مثّل نظرته إلى العالم وما مرَّ به من أحداث سياسية أو اجتماعية، تؤكّد لنا أنَّ الشاعر لم ينغلق على نفسه، فيُناجيها ويترنّم بأشجانه، ويعيش في لهوات أحلامه وأوهامه مثل دأب كثيرٍ من الشعراء الرومانسيين، علمًا أنَّ الجواهري في الوقت نفسه، لم يغفل عن هواجسه النفسية وتحوّلاته العاطفية، لكنّه كان في كل ذلك، لم ينصرف عن الواقع، وهذا ما حقّقَ له حضورًا شعبيًّا واسعًا لم يقتصر على العراق فحسب، إنما كان على مستوى ينسجم والأحداث التي يقف عندها، أو المناسبات التي تدفعه لقول الشعر، ما دفعه إلى مصافِّ "العالمية" بمقدارٍ لا بأس به، قد لا يصحُّ أنْ نتتبَّع في شعره كل صغيرةٍ وكبيرةٍ من الأحداث فإنْ لم توجد أخرجناها من ذلك التوصيف، مثلما يفعل بعضهم، ممّن أزعجهم الجواهري فيما وصلَ إليه من مكانةٍ شعريةٍ عالية، فيتساءل بلهجة لا تخلو من استهجان: وأين الجواهري من هذا الحدث عراقيًّا كان أو عربيًّا أو عالميًّا..؟! وهذا لا يصحُّ، فالشاعر مهما تمرّسَ في التقاط الأحداث والتفاعل معها، والتعبير عنها برؤيته الخاصة، لا يمكن له بحال أنْ يخرجَ من كيانه الشعري إلى كيان المراسل الصحفي الذي يسجّل بموضوعية كلّ الأحداث التي ترصدها كامرته، هذا إذا افترضنا وجود الموضوعية بكل ما للكلمة من معنى عند الصحفي أو القنوات الإخبارية. ولأنَّ الأحداث التي وقف عندها الجواهري في قصائده، كان في أكثرها مُلامسًا لتطلّعات الشعوب في نيل استقلالها وتحقيق إرادتها الحرّة، من ثوراتٍ شعبية وانتفاضات تمثّل الوجه الثوري لتلك الشعوب في سبيل تحقيق استقلالها ورفض نير الاستعباد تحت رحمتها، كان هذا الجانب سببًا من الأسباب التي أتاحت للجواهري ذيوعًا ومقبوليّةً عند قطاعات واسعة من الجماهير، فكانت قصائده تُلهب الشعور بالانتماء الوطني ورفض الاستعمار أو الجهات المرتبطة به من حكومات متواطئة مع المستعمر، وتأتي القضية الفلسطينية واحدةً من أبرز القضايا التي تناولها الجواهري في شعره، فضلاً عن مقالاته السياسية المواكبة لإيقاع الأحداث اليومية في العراق، ناهيك عن أحداث الشرق الأوسط والعالم في الصحف التي ترأسها، وأبدى انتقاداته في كثيرٍ من الشؤون المحلية وغيرها،كان من الطبيعي أنْ يلقى الجواهري طيلة مسيرته ضروبًا من التضييق أدّى به أنْ يُزجّ في السجن أكثر من مرّة، وعلى أثر ذلك كانتِ الصحفُ التي يعمل فيها تُغلق، بدءًا من جريدته "الانقلاب" عقب التوتّر الذي كان بينه وبين قادة الانقلاب الموسوم بحركة "بكر صدقي" وتنكّرهم عن الوعود التي أطلقوها قبل الانقلاب،ما جعل الجواهري يقف بالمرصاد لهم، ولم تكن السلطة السياسية فحسب لها الأثر في التضييق على الجواهري، بل السلطة الدينية كذلك، حين تشعر أنَّ الجواهري يمثل تهديدًا لمكانتها، وليس شرطًا أن تتفق كلا السلطتين: السياسية والدينية على موقف يجابه الجواهري، بمقدار ما تعمل الصُدفة أوالظروف الاجتماعية على هذا التحالف اللا معلن بين السلطتين، وأشيرُ هنا إلى حادثة "الكاشير والطاريف" حين ارتفعت اسعار اللحوم الخاصة بهم، التي استجاب فيها الجواهري لمناشدات فقراء الطائفة اليهودية في العراق، فكان له أن يكتب مقالات لاذعة في انتقدا رئيس طائفتهم (ساسون خضوري) في جملة مقالات كتبها في جريدته، ما دفع الأخير أنْ يرفع دعوىً عليه في المحكمة أدّت به إلى إيقافه في السجن، وليس هذا المواقف بداية المشوار الوطني عند الجواهري، بل سبقه بخمس عشرة سنة موقفه من الثورة العراقية الكبرى، إذ حيّا أبطالها ورثى شهداءها، ودفع لمؤازرتها بكل ما يُتاح للشاعر من دعمٍ وإسناد، وهو القريبُ الذي تأثّر بأحد أكبر رموز تلك الثورة وهو الشاعر السيد العلّامة محمد سعيد الحبّوبي، وهكذا استمرّت المواقف الوطنية للجواهري، في تعرّضه للحاكمين وتعريته لهم بكل ما يملكه من قدرة شعرية وظّفها في هذا السياق، وحمله هموم الطبقات المسحوقة من الشعب، ممّن لا صوت لهم، الأمر الذي دفع ضريبته بأن يُزجّ إلى السجن في أكثر من مرّة، ما يوقفه عن العمل في جريدته، فتُعلّق أعدادها عن الصدور، تلك المواقف الجريئة تمُتُّ بهموم الطبقات الفقيرة من الشعب بأوثق الصلات وأقواها، ما جعله قريبًا من توجّهات اليسار من دون أن ينتمي إليه حزبيًّا، في الوقت الذي لم يكن منتميًا لمذهبٍ دون مذهب من مذاهب المسلمين على الرغم من اعتزازه بانتمائه الإسلامي، على الرغم من كونه سليل أسرة لها باعٌ طويل في فقه المذهب الإمامي، إلا أنّه لم يكن يعرف التعصّب لمذهبه بدليل أنَّه وقف موقف المنتقد لكثيرٍ من المظاهر القشرية باسم الدين في مجتمعه النجفي، ورأى أنّها بعيدة عن صميم الدين وروحه السمحاء، فكان ذلك إيذانًا بوقوفه في قصيدة "الرجعيون" والأخرى "علِّموها" موقف المنتقد الذي يشجب ممانعة بعض رجال الدين افتتاح مدارس لتعليم البنات، وبحسب رأي بعض الباحثين "إن عملية معارضة التعليم الحديث في النجف في تقديرنا استندت الى مصالح وحاجات شخصية لشريحة الرجعيين من رجال الدين التقليديين الذين كانوا يرون في وجود المدارس الحديثة خطرا كبيرا على مواقعهم الاجتماعية وسُلطاتهم الدينية وامتيازاتهم المالية. لان استمرار جهل الناس هو استمرار لمواقعهم وسلطاتهم وامتيازاتهم. [وفي المقابل] كانوا هم اول المبادرين لارسال ابنائهم ثم بناتهم الى هذه المدارس التي سبق وان اسموها بمدارس 'الكفر' و 'المروق'".. "هكذا عرفت مدينة النجف التعليم الحديث، مقال في جريدة المدى: عبد الستار الجنابي". وإذا كان الجواهري بعيدًا كلَّ البعد عن التعصّب لمذهبه، فهو في الوقت نفسه، لا يسكت عمّن يُحاول الإساءة لرموز ذلك المذهب، تلك الرموز الناصعة في جبين التاريخ الإسلامي إلى يومنا هذا، وهذا ما كان للجواهري في موقفه من المنتفكي وزير المعارف آنذاك، الذي لم يسمح بالإساءة إلى الإمام الحسين في كتاب النصولي "الدولة الأموية في الشام" الذي استفزَّ فيه مشاعر الطائفة الشيعية، بما سطّره في هذا الكتاب من آراء تقلِّل من شأن الإمام، في الوقت الذي لا تجده يتناول رموز الإسلام من سائر المذاهب الأخرى بالقدح أو الانتقاد مثلما نجده عند كثيرٍ من شعراء المذهب الشيعي، ممّن يتخندق مذهبيًّا ويأخذ بالغثَّ والسمين من المرويّات التاريخية – بغضّ النظر عن صدقها من عدمه- التي يتمترس بها في سجالٍ مذهبيٍّ عقيم لا تسعى إلا إلى تعميق الهوّة بين أبناء الدين الواحد، بل يمتدحهم إن سنحت الفرصة، ولعل بيته في قصيدته "إلى البعثة المِصرية" واصفًا الشباب الذين يسعون إلى نهضة وتجديد بقوله: "فيها الشجاعةُ من عليٍّ ** والسياسةُ من عُمَرْ" ما يؤكّد تحرّره المذهبي. ومن الطبيعي سيعمل هذا الموقف الجواهري في اتّساع جماهيرية الجواهري، وانفتاح منجزه على الآخر المختلف معه في الدين أو المذهب؛ لكون الشاعر لم يسع إلى وضع الحواجز التي تُعيق من سيروة خطابه الشعري، بقدر ما حافظ على المشتركات الوطنية والثقافية بينه وبين الآخر، وسعى لتدعيم تلك المشتركات بوقوفه عند المناسبات التي تُعزِّز من التلاحم الثقافي العربي واستلهامه من التراث العربي ما ينفع الحاضر، وربطه بمجمل الهمِّ الحضاري العالمي، في التطلع إلى حياةٍ كريمة بعيدة عن شرور الحروب وما تخلِّفه من دمار، وهذا ما كان للجواهري في ذكرى ألفية أبي العلاء المعرّي، أو ذكرى المتنبّي، أو ذكرى عاشوراء، أو ذكرى جمال الدين الأفغاني، أو غاندي، أو مناسبة تحرير ستالينغراد من قبضة النازيين، أو غيرها من المناسبات التي يستثمرها الشاعر في استلهام النافع الذي يدعم توجّهه المدني أو الرسالة الأخلاقية التي يلتزمها في مجمل خطابه الشعري، ويلتقي مع كل هذه المزايا التي حقّقها الجواهري ما كان له من تميّزٍ في نظم الشعر جعله "استثناء دائمًا عند جميع الشعراء مهما نأت بهم المسالك الشعرية" بحسب ما رآه الناقد الراحل الدكتور محسن اطيمش، فكان بذلك أكثرَ الشعراء تأثيرًا في من أتى بعده من شعراء كتبوا شعرهم السياسي والاجتماعي على طريقته باعتراف السياب رائد الشعر الحديث؛ ولعلَّ ما توافر في شعره من جمعٍ بين الوعي الفني والتاريخي وصل به إلى القمَّة [وهذا رأي هادي العلوي] هو الذي حدا بهم إلى الخروج عن ربقة القصيدة ذات الشطرين، إلى نمط آخر هو الشعر الحر المتحرر من إسار القافية الموحَّدة وفق ما رآه المحقق الدكتور محمد حسين الأعرجي أحد النقّاد العراقيين الكبار ممّن كان له صحبة طويلة مع الجواهري وشعره. وقد لا ننسى أنَّ الجواهري بوصفه شاعرًا وليس نبيًّا معصومًا من الزلل، لم يكن بمنأى من المواقف التي حُسِبت عليه، وهي المواقف التي رصدها عليه ناقموه، فيما يخصّ تحيّزهُ إلى الحاكم، بما يؤشّر اضطرابًا في شخصية الشاعر بين وقوفه إلى جانب الشعب تارةً وإلى جانب السلطة تارةً أخرى، ما جعلهم يعدّون تلك القصائد "سقَطَات" و"هفوات" لا تُغتَفر، وبموجب تلك النظرة "المُجحِفة" ينبغي أنْ لا يكون له حظٌ من الترميز، أو هذه المكانة العالية في مدوّنة الشعر العربي الحديث. وهنا أرى في مقام الجواب: أنَّ الجواهري لم يدّعِ العصمةَ في كلِّ ما صدر عنه من مواقفَ مُسبقة، بدليل مبادرته قبل الآخرين بمحاسبة نفسه أشدّ الحساب ولومه بأشد عبارات التقريع بقصائد يمكن أنْ نطلق عليها بـ"جلد الذات" تعبّر عن تسرّعه في اتخاذ المواقف التي يأخذه ظاهرُها إلى أنْ يتبنّاها، ومن ثم تنكشف له بالضد مما كان يتأمله منها. ولعل قوله: "إنني أنساق ببراءة وراء كل ثورة او ظاهرة أو انقلاب أو حركة أو انتفاضة تحمل في ظاهرها شعارات الولاء والانتماء الى الشعب" يؤكّد للمنصف أنَّ الشاعر تأخذه ظاهر تلك الشعارات الرنّانة التي ينساق لها الجماهير بصورة عامة إيمانًا منهم بمصداقيتها، ثم ينكشف لهم خلاف ذلك. وفي جوابه على سؤال في هذا الشأن – شأن بعض التحولات التي رافقت مسيرته الشعرية- قال مؤكّدًا انتماءه إلى طبيعة المرحلة الزمنية وما تتركه من مستوى فكري يتحرك الشاعر بموجبها: "ومن جهةٍ أخرى فالإنصاف والتجرّد في النقد يُلزِمان الناقد أنْ يستعرضَ المرحلةَ الوطنية، والسياسية، في الوقتِ الذي قيلت فيه هذه القصائد. فبمجرّد هذا الاستعراض يتّضح بداهةً أنّ الشاعر العراقي ككلِّ سياسيٍّ عراقيٍّ في عام 1930 مثلاً كان يستمدُّ نشاطه الذهنيّ من أفقٍ ضيّق، لا يدور محورهُ آنذاك إلا حول أشخاص معيّنين لم يمرّ آنذاك الزمن الكافي ليظهروا على حقيقتهم، وكانت المرحلة الوطنية البدائية التي يجتازها العراق في العشر السنين الأولى من خلقه، والتهاب الروح الوطنية في أبنائه"، وهذا ما ينبغي أنْ يضعه الناقد في حسبانه، حين يتوجّه لنقد الجواهري الشاعر، ومن دون ذلك، لم يكن إلا نسخةً مكرّرةً من عبد الله الجبوري في كتابه (الجواهري ونقد جوهرته) سيء الصيت، وغيرهم من كتّاب نظروا إلى الجواهري بعين الساخط الناقم، تلك النظرة التي لا يمكن – في حال تطبيقها- أنْ نجد شاعرًا نركنُ إليه، ونعتزُّ بقيمته شاعرًا ترك منجزه الفنّي وإنسانًا له حسناته في مواقفه التي سجّلها بقصائد ومقالات دشّنتْ رمزيته الوطنية والأدبية، إلى جانب بعض المواقف التي يمكن أنْ نغتفرها لشاعرٍ تغنّت أشعارُهُ بالوطن انتماءً وعشقًا، وسجّل مواقف أبطاله ممّن سالت دماؤهم على ترابه دفاعًا عنه، ولقِيَ من العَنَتِ والتضييق وصل به أنْ يعيش منفيًّا خارج أسواره قد جرَّدته السلطة حتى من جنسيته العراقية، ويموت حالمًا أنْ يُدفنَ في ترابه، في الوقت الذي تسيل كل إغراءات السلطة أمامه، من دون أنْ يتنازلَ عن مبادئه، ويتخلّى عن رسالته. كلُّ هذه الأسباب التي أوجزتُ الحديث عن بعضها، أليست جديرةً بأنْ تضع الجواهري رمزًا أدبيًا يتعدّى حدود العراق وطنه الأم إلى العالم العربي وطنه القوميِّ الصميم إلى العالم بأجمع وطنه الأكبر يستحقُّ الاحتفاء والتكريم مثل شعراء العالم الكبار من قبيل شكسبير، أو طاغور، أو نيرودا، أو لوركا؟
مشاركة :