لا يكفي أن يكون موقفك واقعياً كي يكون قابلاً للحياة. ففشل التسوية بغض النظر عن الخلاف حول جدوى الانخراط فيها وفق مسيرة أوسلو، إلا أن استمرار الخلاف الداخلي حولها، لدرجة المغامرة في تبديد أي إمكانية لاستعادة بناء وتعزيز عناصر القوة الفلسطينية، يدفع بالحال الفلسطيني نحو التيه الذي يعصف ليس فقط برصيد الحركة الوطنية وإنجازاتها، بل وربما يعرض القضية الوطنية ذاتها للخطر، فمن لا يستطيع امتلاك القدرة على الصمود ومقاومة الضغوط لن يستطيع صنع السلام العادل والقابل للحياة. صحيح أن النظام السياسي في إسرائيل لم يكن جاهزاً يوماً للحد الأدنى من متطلبات هذا السلام، لأنه يدرك بطبيعة تكوينه، أن صنع السلام الذي يكرس الحقيقة الفلسطينية، قد يحمل بذور تفتت الفكر الصهيوني الذي نشأ على فكرة تشريد الشعب الأصلاني، رغم إدراكه ولأول مرة تحت ضغط انتفاضة 1987 أن سؤالها الوجودي، مرتبط بالاعتراف بحقيقة حاضر فلسطين، كي تضمن مستقبلها، وهذا بحد ذاته شكّل خلخلة وإن كانت محدودة في الفكر الصهيوني، وكانت المسؤولية تقتضي دفع هذا السؤال لتعميق أزمة إسرائيل نحو هزيمة مشروعها العنصري، الأمر الذي يؤدي إلى أن يخرج من بين ظهرانيهم من يقول «هناك رواية أخرى لشعب لم ولن نستطيع طمس وجوده ولا مصادرة هويته وروايته». حينها سيُفتح الباب لتلك التسوية التاريخية في هذه البلاد سواء بدولتين متعايشتين على أساس مصالح الجغرافيا، أو في إطار دولة واحدة خالية من المظاهر والتعبيرات العنصرية التي تنفي الآخر. ومهمتنا التاريخية حتى ولوج تلك اللحظة هي بناء مجتمعنا ومؤسساتنا القوية والقادرة على تعزيز مكانة الفلسطيني المنافس والمستعد لتبعات كلا الخيارين، وما يتطلبانه من بناء عناصر القدرة على الصمود والمقاومة، مهما كانت أثمانها، لمخططات الطمس والتهجير، ولعل ذلك هو جوهر رؤية رئيس الوزراء الأسبق سلام فياض، التي عُرفت بـ«خطة العامين لإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة»، فبناء المؤسسات الفاعلة لم يكن وهماً، كما أطلق على ذلك بعض قصيري النظر، بل هو جوهر ومضمون متطلبات عملية الصمود التي يطلقها الجميع كشعار من دون مضمون عملي وملموس لتعزيز ثقة الناس بأنفسها وبمستقبلها وبقدرتها على إنجاز أهدافها الوطنية، ولعل هذه هي الوظيفة الجوهرية للقيادة، أي قيادة، وفي أي مرحلة، سواء كانت لإنجاز التحرر الوطني أو البناء الديمقراطي للمؤسسات الجامعة، أو كليهما معاً. إسرائيل التي تعيش أزمتها التاريخية، إزاء هويتها ومستقبل الفلسطيني، تمتلك من القوة العسكرية ورخاوة الواقع العربي ما يحفزها على رفض والهروب من استحقاق التسليم الكامل بحقيقة هذا الفلسطيني، ولكن في الوقت نفسه، فإن وقوع الأطراف المهيمنة على المشهد الفلسطيني في الفخ الإسرائيلي لدرجة المغامرة بتبديد عناصر القوة الذاتية في الصراع البيني، هو الذي يشجع إسرائيل على التمترس واندفاعها المتسارع نحو المزيد من طابعها اليميني العنصري. هذه الاستطالة لوصف طبيعة الحالة الفلسطينية، واستمرار الوهم سواء باستجداء التسوية عبر استرضاء العدو، مجردين من عناصر القوة، وجوهرها وحدة الشعب وإرادته في البقاء، أو وهم ممكنات المقاومة «الصاروخية أو الاستشهادية» القادرة على إزالة إسرائيل من الوجود! فكلاهما يسهم في تقوية طابعها العنصري الذي يرفض مجرد رؤية الفلسطيني والاعتراف بحقيقته. وهذا هو جوهر استراتيجية عتاة الفكر الصهيوني، بأن على الفلسطيني أن يظل هزيلاً وضعيفاً، أو «متطرفاً إرهابياً» لا يستحق و/أو لا يمكن الحديث معه والاعتراف به وبحقه في تقرير مصيره على أرض وطنه. المأزق الوطني، وانجراف الصراع الداخلي إلى ما وصل إليه يشجع الأطراف المعادية و/أو الواهمة، وفي مقدمتها الاحتلال الإسرائيلي، لإشعال نار الفتنة، وربما الانزلاق إلى تخوم حرب أهلية، سواء في الصراع الانقسامي المستمر لاسترضاء العدو على جدارة وكالته الأمنية، أو الصراع على «الخلافة»، وما يتطلبه من استحضار القبيلة في صراع القبيلتين المهيمنتين على المشهد. وما إطلاق النار على القيادي في حركة «حماس» ونائب رئيس الوزراء الأسبق ناصر الدين الشاعر، إلا مؤشر خطير على تدهور هذا الواقع، الذي لا يستبعد تورط إسرائيل صاحبة المصلحة العليا والأساسية في مزيد من التفتيت الذاتي. ولكن في كل الأحوال، ستظل السلطة الفلسطينية بحكم مسؤوليتها السياسية والأمنية، مسؤولة عن ضرورة الوصول لمنفذي هذه الجريمة الوطنية، ومَن يقف وراءهم، وهي التي تتجاوز بخطرها مجرد إصابة أحد الرموز الوطنية المشهود لها بالحرص على استعادة الوحدة الوطنية، بل تستهدف الوحدة ذاتها في مقتل، كخطوة لتصفية ما تبقى لشعبنا من أمل وقوة يُمكّنانه من الاستمرار في رفض المشروع العنصري التصفوي، والخضوع لمخططاتها في اختراع قيادة وفق القياسات الاحتلالية، التي تساعدها في مزيد من تفكيك الكيانية الوطنية لمجرد روابط مدن أو كانتونات، حتى يفعل اليأس فعله للتهجير الذاتي، سيما في ظل اتساع مظاهر الفلتان التي تستهدف الإطاحة بالتعددية الفكرية والتنوع الثقافي والديني، وتماسك النسيج الوطني الذي شكّل دوماً الركيزة الصلبة لصمود شعبنا. المعركة الراهنة، هي معركة هزيمة عبثية اللحظة، والخروج العاجل والآمن من حالة التيه السياسي وفوضى السلاح، واستعادة العدالة والشعور بالأمن، وليس من سبيل لذلك سوى التوقف عن هدر الزمن وعناصر القوة، والعودة للحظة الوعي التي يختزنها شعبنا، وتعزيز متطلبات وحدته ضد التناقض الجوهري والرئيسي مع الاحتلال. وفي هذا السياق أيضاً، يمكن النظر لصرخة المحامين دفاعاً عن العدالة وكرامة الناس واسترداد استقلالية وهيبة القضاء. فاستعادة الوعي ومغادرة لحظة التيه تشكلان مفتاح الحرية والخلاص الأكيد من الاحتلال.
مشاركة :