الجغرافيا والتضاريس وجه للمكان، وتفاصيل تكشف ملامح الحضور وإطار اللحظة، وعناصر المشهد، لكن الحياة هي اللغة والصوت والتفاعل بين الإنسان والمكان، وبذلك تكون الحكاية، بينما وظيفة الزمن تتلخص في تحديد الحاضر، والركض إلى المستقبل وتوليد الماضي، وهكذا يتشكّل التاريخ، وأيضاً هكذا تتجذّر عروق الموروث والأصالة، وتتجدد بالملاحظة والتنبه مثلما تفعل وزارة الثقافة ممثلة بهيئة التراث، وذلك بواسطة أعمال المسح والتنقيب والاكتشاف والتسجيل للموروث بمختلف أنماطه، ومنها المواقع والنقوش مثل موقع "غزوة العُشيرة" ونقش "سلمة". طيف الأمكنة المشع بينما الحياة هي ما يحدث الآن فإن الحيوية هي ما يمكن تذكره، أو ما يسمح بإعادة التعامل معه، والوصول إليه بفاعلية، حيث كشفت هيئة التراث مؤخراً عن وقوف فريق علمي تابع لها على موقع "غزوة العُشيرة"، وفقاً للمعلومات التي قدمها فريق "إيرث للتصوير الجوي"، ويعد موضع "العُشيرة" في محافظة ينبع غرب المملكة ذا أهمية بالغة لارتباطه بواحدة من غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد وُصف المكان من بعض المؤرخين في القرن الرابع الهجري بأنه قرية صغيرة قبالة مدينة ينبع تحوي مجموعة صغيرة من النخيل. طيف الأمكنة دلالة على العبور وصدى وانعكاس للأحداث والمغروسة في باطن الأرض، والطافية على السطح كما هو الحال في موقع " العُشيرة"، والذي يتكوّن من مجموعة أساسات سكنية معمارية مؤلفة من الحجارة البركانية غير المنتظمة حول منطقة رملية شاسعة، وتكون هذه الأساسات في مجملها بعض الوحدات والغرف ذات الشكل المستطيل المكوّن من مدماك واحد، بينما بقية الأساسات مطمورة بشكل ملاحظ في منطقة من الرمال. ووثّق فريق "إيرث للتصوير الجوي" في موقع "العُشيرة" مجموعة من الأرحية والمدقات التي تعطي انطباعاً أن المكان كان منطقة زراعية خاصة لوقوعها على ضفاف وادي ينبع مكوّناً مصدراً رئيسياً من مصادر المياه، بالإضافة إلى جملة من الكسر الفخارية من النوع العادي السميك الذي يستخدم عادة كقلال، أو أوانٍ للتخزين والاستخدامات اليومية الأخرى، ويمكنُ تأريخها للقرن الثالث والرابع الهجري (التاسع والعاشر الميلادي) وفقاً لأسلوب صناعة ونوع عجينة الفخار. بصمة تقاوم الغياب الأثر والتوقيع يبقى لوقت أطول كلما صادف طريقة تساهم في حمايته وتمد في عمر نضارته، ويجسّد ذلك ما أعلنت عنه هيئة التراث بالتزامن مع الوقوف على موقع "العُشيرة" من زيارة إلى نقش "سلمة" في المنطقة الواقعة بين محافظتي ينبع والعيص، والذي يعد أقدم نقش صخري إسلامي مؤرخ، وذلك في العام 23 للهجرة، إضافة إلى نقوش إسلامية تسجل للمرة الأولى في المكان نفسه إلى جانب بعض العيون والقنوات المائية القديمة. وتتمثّل أهمية نقش "سلمة" بفضل ارتباطه بحقبة زمنية تعود إلى بداية الحضارة الإسلامية وانتشارها في بقاع العالم، والذي جاء نصه كالتالي: "كتب سلمة، بثلث وعشرين" كما اكتشف الفريق نقشاً آخر كتبه "سلمة" مجاوراً للنقش الأصلي ونقوش إسلامية أخرى، والتي جاءت نصوصها: "رب اغفر لسلمة ولمن قرأها آمين، وتاب الله على محمد بن عبد الله". وحيث تضمنت الزيارة أخذ صور واضحة للنقش، ومسح المنطقة المجاورة، مع توثيق النقش وتصحيح قراءته، وتثبيت إحداثياته، علماً أن نقش "سلمة" الذي سبق ونشر عنه في عام 2005، يقع شمال ينبع في حدود 120كم بالقرب من هجرة المثلَّث التابعة لمحافظة العيص. وكما يروي الماء الأرض القاحلة فإنه كذلك يهب الذاكرة طراوة خاصة، إذ أوضح الفريق وقوفه على مجموعة من القنوات المائية، والعيون التاريخية القديمة في ينبع النخل، والتي ورد ذكرها في المصادر القديمة ويظهر على منابعها القدم، مع ملاحظة أن هذه الينابيع والعيون مشابهة للأنظمة المائية القديمة في الأفلاج وفرزان في الخرج، وهي دليل مادي وملموس على النظام المائي القديم، والذي لا يزال يستخدم من قبل السكان المحليين في ري مزارعهم. موقع "العُشيرة" كذاكرة مكانية ونقش "سلمة" كدلالة وبصمة، تمنح بوابة وصول واكتشاف إلى ماضٍ ثمين وأصيل، وتمنح في الوقت نفسه معنى ولمسة خصوصية على مساحة وعناصر بالغة القيمة وعريقة الحضور، في خطوات من هيئة التراث لحفظ الموروث، وتفعيل الكيفية المناسبة للتعاطي معه واستثماره، وذلك في إطار الجهود الحثيثة التي تقودها الهيئة للوقوف على المواقع التاريخية وتوثيقها وتأريخها، وحصر مواقع التراث الوطني، وما تحويه من آثار ومعالم تاريخية، تعزيزاً للتعاون مع المنظمات والفرق والأفراد للإسهام في حيوية ذاكرة الأمس، وتأثيث تفاصيل اللحظة، والتمهيد لشكل المستقبل.
مشاركة :