"تائهون".. مسرحية تقدم الوجه القبيح للأوطان

  • 7/29/2022
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

بعد “سوس”، “إنتلجنسيا” و”قصر السعادة” يغوص المخرج المسرحي التونسي نزار السعيدي - الباحث الدائم عن التجديد - مجدّدا في دراما عائلية يشرّح فيها آفات المجتمع بطريقة نقدية جريئة عن طريق طرح أسئلة مربكة عبر مسرحيته الأخيرة “تائهون”. المسرحية التي واكبها مؤخرا جمهور مهرجان الحمامات الدولي في دورته السادسة والخمسين، دراماتورجيا عبدالحليم المسعودي، عن نصّ مشترك بين المسعودي والسعيدي وأداء كل من تماضر الزرلي وانتصار عويساوي وجمال ساسي ورمزي عزيز ومحمد شعبان وصادق الطرابلسي وعلي بن سعيد. عنف متزايد العمل قدم الوجه القبيح للوطن فكلّنا تائهون داخل عالم يسوده الانفلات والفوضى، لا شيء فيه مضمون وآمن تلخّص مسرحية “تائهون” إحدى عشرة سنة عاشها التونسيون منذ ثورة يناير 2011 وما تبعها من تحولات اجتماعية وسياسية وثقافية أثّرت على المزاج العام وعلى الأخلاق والعادات والممارسات اليومية والعلاقات بين مختلف الفئات الاجتماعية، وكان من أشد مظاهرها السلبية ازدياد منسوب العنف في المجتمع، الذي يتمثل في رفض الآخر ورفض الفكرة المخالفة والسعي لتكفير كل مظاهر الاختلاف والتباين وتحريمها ونبذها. قدم هذا العمل الذي يحمل أيضا عنوان “دارك سايد” أي “الوجه المظلم”، الوجه القبيح للوطن فكلّنا تائهون داخل عالم يسوده الانفلات والفوضى، لا شيء فيه مضمون وآمن وكل الأحداث الظاهرية تخفي وراءها جوانب شديدة الظلام. كانت بداية المسرحية بعرض فيديو وثّق الفوضى والتسيب في الشوارع الجانبية للعاصمة تونس وما حملته من اختلاف وصراع وتناحر، قبل أن تنطلق الأحداث بمشهد صادم للمتفرج رجّت وجدانه يتمثل في ارتكاب جريمة بشعة أقدمت فيها فتاة مراهقة تدعى “إشراق” على قتل والدتها والتنكيل بجثتها قبل سحلها في الشارع لتنشر فيما بعد فيديو اعترافها بالجريمة على مواقع التواصل الاجتماعي. هذه الحادثة التي تحوّلت إلى ظاهرة إعلامية عالمية تفاعلت معها مجموعة من الأشخاص والمؤسسات كل حسب مجال تخصّصه للبحث عن الدوافع الخفية لهذه الفتاة محاولين بذلك استحضار وجع الذات وتعقيداتها، وفي أثناء عملية التفتيش عن المجرمة الفارة تقوم إشراق بالجريمة الثانية وتقتل أستاذها، وبعد أسبوع من الملاحقات والتحقيقات تنتهي المسرحية بانتحار الفتاة تاركة وراءها أسئلة عالقة حول واقع الضياع والتّيه الذي نعيشه اليوم ببلادنا، كيف حدث هذا؟ لماذا وصلنا إلى هذه الحال؟ إلى أين نحن ذاهبون؟ لماذا انفلت منا أبناؤنا في غفلة منا؟ من الضحية ومن الجلّاد؟ ومن خلال هذه القصة تغوص المسرحية في ظواهر مجتمعية انتشرت بعد ثورة يناير 2011، منها الانفلات الأمني، الانفلات الأخلاقي والقيمي والمجتمعي وكذلك الانفلات السياسي الذي أدّى إلى انتشار الفوضى والعنف بين نواب البرلمان والأحزاب السياسية إضافة إلى انتشار غير مسبوق للجريمة، بمختلف مظاهرها وللعنف بمختلف أشكاله. وترتقي المسرحية في بعض جوانبها إلى درجة الدراسة الاجتماعية التي تشرّح شخصية التونسي وسلوكه، وتنتهي إلى أن هناك جيلا بأكمله نشأ على الفوضى وعبارات التخوين والتخويف والتكفير والصراعات، وعلى الألعاب الإلكترونية الدموية فتشكّل جيل هشّ نفسيا يريد التحرر من كل القيود المجتمعية لكن دون التفكير في العواقب والنتائج التي تبدو كارثية على الجميع. والعنف قد لا يكون “تونسيا” فقط، فأغلب الدول العربية تشكو خلال السنوات الأخيرة من ارتفاع العنف والجريمة، ومن حين إلى آخر يصدمنا خبر جريمة بشعة تهز المجتمعات وتظل لأيام حديث وسائل التواصل الاجتماعي. كلنا تائهون الوجه المظلم على خشبة المسرح الوجه المظلم على خشبة المسرح عبّر كاتب النص عبدالحليم المسعودي عن مشكلات المجتمع بعبارة ”تائهون“ التي تقدّم توصيفا دقيقا في نظره لمجتمع الجميع فيه تائه، بدءا من الشباب الذي فقد البوصلة والقدوة، وصولا إلى الأستاذ الذي يجد نفسه ممزقا بين التجديد والمنظومة التعليمية التي تشده إلى الوراء، والصحافي التائه بين الالتزام بأخلاقيات مهنته والعمل على خلق الإثارة ومواكبة السرعة في نقل المعلومة وتحقيق أكبر عدد من المتابعين والمشاهدات، والفنان الذي يلاحق حلمه فتعيده إكراهات الذوق العام إلى الوراء، ورجل السياسة الذي يفشل في خلق مشهد سياسي صحي ومتوازن والحفاظ على ممارسة سياسية أخلاقية. وجاء نص المسرحية انطلاقا من إيمان المسعودي – وهو كاتب وناقد مسرحي وأستاذ جامعي ومنتج برامج ثقافية تلفزيونية – بأن المسرح الجدي يسير نحو الاندثار لذلك رأى أنه من الضروري إيجاد عمل مسرحي جاد لا يقدم المسرح الهزلي أو السطحي وإنما يعكس التزاما بقضايا المجتمع. ويوافقه الرأي المخرج الذي شاركه كتاب النص، حيث يقول السعيدي إنه يسعى لتقديم مسرح يستدعي التفكّر ويرتبط جدليا مع متلقيه، ويقطع مع ثقافة الاستهلاك والتفاهة التي ضربت جميع الأسس والقيم، ويحاول إيقاظ الفكر وفتح الحوار حول قضايا مصيرية لمستقبل المجتمع، مسرح ينطلق من الراهن المحلي كعينة بحث لإشكاليات إنسانية كبرى ويقوم بدوره الحيوي لإكساب المجتمع مناعة أمام الظواهر التي نخرته. السعيدي يسعى لتقديم مسرح يستدعي التفكّر ويرتبط جدليا مع متلقيه، ويقطع مع ثقافة الاستهلاك والتفاهة وبنص جريء ونقدي وديكور بسيط طرحت المسرحية ظاهرة انتشار الجريمة في تونس التي أصبح فيها القتل أمرا عاديا، وبأداء متميّز لأجيال مختلفة من الممثّلين بأجسادهم وأصواتهم وحركاتهم وصدق ملامحهم، بالإضافة إلى التقنيات المستعملة في هذا العمل التي اعتبرها السعيدي “بنت وقتها” فاللّعب على عالم الصورة والأضواء والموسيقى وكيفية الطرح كلّها وسائل سعى من خلالها المخرج لجلب الجمهور للتفاعل والتفكير حول المسائل المطروحة في هذا العمل. في “تائهون” تعالت أصوات الممثلين وانتفضت أجسادهم بحثا عن أسباب ارتفاع نسبة الجريمة في تونس ومحاولة تفكيك عالمها اجتماعيا ونفسيا والبحث في عوامل تفاقمها ودوافع كل هذا العنف والانفلات والدموية والوحشية التي سادت مجتمعنا. وكان “دارك سايد” أو الجانب المظلم، أيضا، عملا نقديا جدليا كشف عن تلاشي القيم والمبادئ وانعدام الإنسانية في يومنا هذا ليبيّن حالة التّيه التي يعيشها هذا الجيل في اللغة والأفكار واللباس، نتيجة تراكمات منذ الاستقلال وصولا إلى الحاضر. “كلنا تائهون” حسب نزار السعيدي الكل مساهم في هذا التّيه العائلة والمنظومة التربوية والأمنية والإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي والمجتمع المدني. تائهون عمل طرح بأسلوب بسيط وسهل استوعبه الجمهور وفهمه، فاللغة والقضايا المطروحة ووضعيات الشخصيات قابلة لأن يفهمها أيّ شخص ويحاول تفكيك وشرح قضاياها مع أطراف هذا العمل كما عبّر عن ذلك نزار السعيدي الذي اعتبر الجدية في هذه المسرحية هي التي جعلت المتفرج يفكر ويتجادل مع ما كل ما طرح على خشبة المسرح.

مشاركة :